( الفرق الرابع والعشرون والمائتان بين ) : قاعدة الفتوى وقاعدة الحكم
وينبني على الفرق تمكين غيره من الحكم بغير ما قال في الفتيا في مواضع الخلاف بخلاف الحكم اعلم أن العبادات كلها على الإطلاق لا يدخلها الحكم ألبتة بل الفتيا فقط فكل ما وجد فيها من الإخبارات فهي فتيا فقط فليس لحاكم أن يحكم بأن هذه الصلاة صحيحة أو باطلة ، ولا أن هذا الماء دون القلتين فيكون نجسا فيحرم على المالكي بعد ذلك استعماله بل ما يقال في ذلك إنما هو فتيا إن كانت مذهب السامع عمل بها ، وإلا فله تركها ، والعمل بمذهبه ، ويلحق بالعبادات أسبابها فإذا لا يلزم ذلك المالكي [ ص: 49 ] لأن ذلك فتيا لا حكم ، وكذلك شهد بهلال رمضان شاهد واحد فأثبته حاكم شافعي ، ونادى في المدينة بالصوم يسقط الزكاة أو لا يسقطها أو ملك نصاب من الحلي المتخذ باستعمال المباح سبب وجوب الزكاة فيه أو أنه لا يوجب الزكاة أو غير ذلك من أسباب الأضاحي ، والعقيقة ، والكفارات ، والنذور ، ونحوها من العبادات المختلف فيها أو في أسبابها لا يلزم شيء من ذلك من لا يعتقده بل يتبع مذهبه في نفسه . إذا قال حاكم قد ثبت عندي الدين
ولا يلزمه قول ذلك القائل لا في عبادة ، ولا في سببها ولا شرطها ، ولا مانعها ، وبهذا يظهر لم يكن ذلك حكما ، وإن كانت مسألة مختلفا فيها أن الإمام لو قال لا تقيموا الجمعة إلا بإذني ، وللناس أن يقيموا بغير إذن الإمام إلا أن يكون في ذلك صورة المشاقة ، وخرق أبهة الولاية ، وإظهار العناد والمخالفة فتمنع إقامتها بغير أمره لأجل ذلك لا لأنه موطن خلاف اتصل به حكم حاكم ، وقد قاله بعض الفقهاء . هل تفتقر الجمعة إلى إذن السلطان أم لا
وليس بصحيح بل حكم الحاكم إنما يؤثر إذا أنشأه في مسألة اجتهادية تتقارب فيها المدارك لأجل مصلحة دنيوية فاشتراطي قيد الإنشاء احتراز من حكمه في مواقع الإجماع فإن ذلك إخبار ، وتنفيذ محض [ ص: 50 ] وفي مواقع الخلاف ينشئ حكما ، وهو إلزام أحد القولين اللذين قيل بهما في المسألة ، ويكون إنشاؤه إخبارا خاصا عن الله تعالى في تلك الصورة من ذلك الباب ، وجعل الله تعالى إنشاءه في مواطن الخلاف نصا ، ورد من قبله في خصوص تلك الصورة كما لو فيتناول هذه الصورة الدليل الدال على عدم لزوم الطلاق عند قضى في امرأة علق طلاقها قبل الملك بوقوع الطلاق ، وحكم المالكي بالنقض ، ولزوم الطلاق نص خاص تختص به هذه المرأة المعينة ، وهو نص من قبل الله تعالى فإن الله تعالى جعل ذلك للحاكم رفعا للخصومات والمشاجرات ، وهذا النص الوارد من هذا الحاكم أخص من ذلك الدليل العام فيقدم عليه لأن القاعدة الأصولية أنه إذا تعارض الخاص والعام قدم الخاص على العام فلذلك لا يرجع الشافعي يفتي بمقتضى دليله العام الشامل لجملة هذه القاعدة في هذه الصورة منها لتناولها نص خاص بها مخرج لها عن مقتضى ذلك الدليل العام ، ويفتي الشافعي بمقتضى دليله العام فيما عدا هذه الصورة من هذه القاعدة . الشافعي
وكذلك لو حكم الشافعي باستمرار الزوجية بينهما خرجت هذه الصورة عن دليل المالكي وأفتى فيه بلزوم النكاح ودوامه ، وفي غيرها بلزوم الطلاق لأجل ما أنشأه من الحكم تقديما للخاص على العام فهذا هو معنى الإنشاء [ ص: 51 ] وقولي في مسألة اجتهادية احتراز من مواقع الإجماع فإن الحكم هنالك ثابت بالإجماع فيتعذر فيه الإنشاء لتعينه وثبوته إجماعا ، وقولي تتقارب مداركها احتراز من الخلاف الشاذ المبني على المدرك الضعيف فإنه لا يرفع الخلاف بل ينقض في نفسه إذا حكم بالفتوى المبنية على المدرك ، وقولي لأجل مصالح الدنيا احتراز من العبادات كالفتوى بتحريم السباع ، وطهارة الأواني [ ص: 52 ] وغير ذلك مما يكون اختلاف المجتهدين فيه لا للدنيا بل للآخرة بخلاف الاختلاف في العقود والأملاك والرهون والأوقاف ونحوها إنما ذلك لمصالح الدنيا ، وبهذا يظهر أن الشافعي منها ما يقبل حكم الحاكم مع الفتيا فيجمع الحكمان ، ومنها لا يقبل إلا الفتوى ، ويظهر لك بهذا أيضا تصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وقع هل هو من باب الفتوى أو من باب القضاء ، والإنشاء ، وأيضا يظهر أن إخبار الحاكم عن نصاب اختلف فيه أنه يوجب الزكاة فتوى ، وأما أخذه للزكاة في مواطن الخلاف فحكم ، وفتوى من جهة أنه تنازع بين الفقراء . الأحكام الشرعية قسمان
والأغنياء في المال الذي هو مصلحة دنيوية ، ولذلك أن تصرفات السعاة ، والجباة في الزكاة أحكام لا ننقضها ، وإن كانت الفتوى عندنا على خلافها ، ويصير حينئذ مذهبنا ، ويظهر بهذا التقرير أيضا سر قول الفقهاء إن لا ينقض ، وأنه يرجع إلى القاعدة الأصولية ، وتصير هذه الصورة مستثناة من تلك الأدلة العامة كاستثناء المصراة ، والعرايا ، والمساقاة ، وغيرها من المستثنيات ، ويظهر بهذا أيضا أن حكم الحاكم في مسائل الاجتهاد ليست أحكاما فتبقى الصورة قابلة لحكم جميع تلك الأقوال المنقولة فيها قال صاحب الجواهر ما قضى به من نقل الأملاك ، وفسخ العقود فهو حكم فإن لم يفعل أكثر من تقرير الحادثة لما رفعت إليه التقريرات من الحكام قال كامرأة زوجت نفسها بغير إذن وليها فأقره [ ص: 53 ] وأجازه ثم عزل ، وجاء قاض بعده عبد الملك ليس بحكم ، ولغيره فسخه .
وقال ابن القاسم هو حكم لأنه أمضاه ، والإقرار عليه كالحكم بإجازته فلا ينقض ، واختاره ابن محرز ، وقال إنه حكم في حادثة باجتهاده ، ولا فرق بين أن يكون حكمه فيه بإمضائه أو فسخه أما لو رفع إليه هذا النكاح فقال أنا لا أجيز هذا النكاح بغير ولي من غير أن يحكم بفسخ هذا النكاح بعينه فهذه فتوى ، وليست بحكم أو فهو فتوى ما لم يقع حكم على عين الحكم قال ولا أعلم في هذا الوجه خلافا قال رفع إليه حكم بشاهد ويمين فقال أنا لا أجيز الشاهد واليمين فيحكم بأنه رضاع محرم . وإن حكم بالاجتهاد فيما طريقه التحريم والتحليل ، وليس بنقل ملك لأحد الخصمين إلى الآخر ، ولا فصل خصومة بينهما ، ولا إثبات عقد ، ولا فسخه مثل رضاع كبير
ويفسخ النكاح لأجله فالفسخ حكم ، والتحريم في المستقبل لا يثبت بحكمه بل هو معرض للاجتهاد أو ففسخه حكم دون تحريمها في المستقبل ، وحكمه بنجاسة ماء أو طعام أو تحريم بيع أو نكاح أو إجارة فهو فتوى ليس حكما على التأبيد ، وإنما يعتبر من ذلك ما شهده ، وما حدث بعد ذلك فهو موكول لمن يأتي من الحكام والفقهاء فظهر أيضا من هذه الفتاوي ، والمباحث أن رفعت إليه امرأة تزوجت في عدتها ففسخ نكاحها ، وحرمها على زوجها كلاهما إخبار عن حكم الله تعالى ، ويجب على السامع اعتقادهما ، وكلاهما يلزم المكلف من حيث الجملة لكن الفتوى إخبار عن الله تعالى في إلزام أو إباحة ، والحكم إخبار معناه الإنشاء والإلزام من قبل الله تعالى وبيان ذلك بالتمثيل أن المفتي مع الله تعالى كالمترجم مع القاضي ينقل ما وجده عن القاضي ، واستفاده منه بإشارة أو عبارة أو فعل [ ص: 54 ] أو تقرير أو ترك ، والحاكم مع الله تعالى كنائب الحاكم ينشئ الأحكام ، والإلزام بين الخصوم ، وليس بناقل ذلك عن مستنيبه بل مستنيبه قال له أي شيء حكمت به على القواعد فقد جعلته حكمي فكلاهما موافق للقاضي ، ومطيع له ، وساع في تنفيذ مواده غير أن أحدهما ينشئ ، والآخر ينقل نقلا محضا من غير اجتهاد له في الإنشاء كذلك المفتي ، والحاكم كلاهما مطيع لله تعالى قابل لحكمه غير أن الحاكم منشئ ، والمفتي مخبر محض ، وقد ، وضعت في هذا المقصد كتابا سميته الإحكام في الفتاوى والأحكام ، وتصرف القاضي ، والإمام ، وفيه أربعون مسألة في هذا المعنى ، وذكرت فيه نحو ثلاثين نوعا من تصرفات الحاكم ليس فيها حكم ، ولنقتصر هنا على هذا القدر في هذا الفرق . الفتوى والحكم