( الفرق التاسع والأربعون بين قاعدة قيافته عليه السلام وبين قاعدة قيافة المدلجيين )
اعلم أن مالكا رضي الله عنهما قالا والشافعي وخصصه بالقافة في لحوق الأنساب في مشهور مذهبه بالإماء دون الحرائر . مالك
وقال رضي الله عنه لا يجوز الاعتماد على القافة أصلا [ ص: 126 ] في صورة من الصور لأنه حزر وتخمين فلا يجوز كالاعتماد على النجوم وعلى علم الرمل والفأل والزجر وغير ذلك من أنواع الحزر والتخمين فإن الاستدلال بالخلق على الأنساب من باب الحزر البعيد ومع طول الأيام يولد للشخص من لا يشبههما في خلق ولا في خلق وقد { أبو حنيفة } يشير إلى أن قال عليه السلام للذي أنكر ولده من لونه لعله عرق نزع بعد أن قال له هل لك من إبل قال نعم قال فما ألوانها قال بيض قال هل فيها من أورق قال نعم قال فمن أين ذلك الأورق قال لعله عرق نزع قال له عليه السلام لعله عرق نزع فيأتي الولد يشبه غير أبويه وقد يأتي يشبه أبويه وليس منهم لأن الواطئ الزاني بأمه كان يشبه أباه أو جدا من أجداده أو خالا من أخواله يشبه أباه الذي ألحقته به القافة وليس باب له في نفس الأمر وإذا لم يطرد ولم ينعكس لم يجز الاعتماد عليه لأنه من باب الحزر والتخمين البعيد واحتج صفات الأجداد وأجداد الأجداد والجدات قد تظهر في الأبناء مالك رضي الله عنهما بما في والشافعي { مسلم عائشة رضي الله عنها دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم مسرورا فقال يا عائشة ألم تري أن مجززا المدلجي دخل علي فرأى أسامة وزيدا وعليهما قطيفة قد غطيا رؤسهما وبدت أقدامهما فقال إن هذه الأقدام بعضها من بعض } فقال قالت أبو داود كان شديد السواد وأبوه شديد البياض فطعنت الجاهلية على أسامة زيد بذلك فسر عليه السلام لعلمه بترك الطعن عند ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يسر إلا بسبب حق فتكون القيافة حقا وهو المطلوب . أجاب الحنفية عن هذا الحديث بوجهين
( الأول ) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتعين أن يكون سر لكون القيافة حقا بل جاز أن يسر لقيام الحجة على الجاهلية بما كانوا يعتقدونه وإن كان باطلا والحجة قد تقوم على الخصم بما يعتقده وإن كان باطلا وقد يؤيد الله الحق بالرجل الفاجر وبما شاء فإخمال الباطل ودحضه يوجب السرور بأي طريق كان
( الثاني ) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سر بوجوده آية الرجم في التوراة وهو لا يعتقد صحتها بل لقيام الحجة على الكفار وظهور كذبهم وافترائهم فلم لا يكون هنا كذلك . أجاب الفقهاء عن الأول بما جاء في وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث اللعان المشهور { البخاري عويمر العجلاني وامرأته [ ص: 127 ] وكانت حاملا إن جاءت به أحمر قصيرا كأنه وحرة فلا أراها إلا قد صدقت وكذب عليها وإن جاءت به أسود أعين ذا أليتين فلا أراه إلا قد صدق عليها فجاءت به على المكروه من ذلك } وفي بعض الروايات في لما لاعن بين { البخاري } كان ذلك الرجل مصفرا قليل اللحم سبط الشعر . وكان الذي ادعى عليه أنه وجده عند أهله خدلا آدم كثير اللحم جعدا قططا فقال النبي صلى الله عليه وسلم اللهم بين فجاءت شبيها بالرجل الذي ذكر زوجها أنه وجده عندها
( فائدة ) الوحرة بالحاء المهملة دويبة حمراء تلصق بالأرض والأعين الواسع العينين والآدم الشديد الأدمة وهي سمرة بحمرة والخدل الكثير اللحم في الساقين يقال رجل خدل وامرأة خدلاء والقطط الشديد الجعودة كشور السودان وبما جاء في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه { رضي الله عنها لما قالت أو تجد المرأة ما يجد الرجل يعني من إنزال المني واللذة الموجبة للغسل فقال لها عليه السلام تربت يداك ومن أين يكون الشبه لعائشة } فدل هذا الحديث على أن قال فيأتي في الخلقة والأعضاء والمحاسن ما يدل على الأنساب وحديث اللعان أيضا يقتضي ذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى على خلقة مخصوصة أنها توجب أنه من واطئ مخصوص وأنه يوجب النسب إن جاءت به يشبه صاحب الفراش وإذا استدل عليه السلام بالخلق التي لم توجد على الأنساب فالأولى ثبوت الدليل بالخلق المشاهد فإن الحس أقوى من القياس وإذا ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أثبت هذا من قبل نفسه في صورة ليس فيها غرض للمشركين دل ذلك على أن هذه القاعدة حق في نفسها وأن سروره عليه السلام لم يكن إلا بحق لا لأجل إقامة الحجة على المشركين . وعن الثاني أن رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهوديين إنما كان بوحي وصل إليه صلى الله عليه وسلم لعدم صحة التوراة في آية الرجم وتجويز أنها من المحرفات ولا يلزم من إخبار مني المرأة ومني الرجل يحدث شبها في الولد بالأبوين أن في التوراة آية الرجم أن يكون ذلك صحيحا لأن عبد الله بن سلام إنما أخبر بأنه رآها مكتوبة في نسخ التوراة ولم يخبر أنها مروية عنده بالطريق الصحيح إلى عبد الله بن سلام موسى بن عمران عليه السلام ولا يلزم من أن يكون في النسخ شيء مكتوبا أن يكون صحيحا فإن الإنسان منا يقطع بأنه وجد في كتب [ ص: 128 ] التواريخ حكايات وأمورا كثيرة ولا يقضي بصحتها فكذلك هنا وإذا كان عليه السلام حكم بالوحي فلا يكون ذلك حجة علينا ههنا فإن هذه الصورة ليس فيها ما يدل على الوحي بل ظاهر الأمر خلافه فظهر بهذه الأحاديث أن هذا مدرك صحيح يعتمد عليه وليس من باب الحزر الباطل كما قاله أبو حنيفة
( سؤال ) قال بعض الفضلاء العجب من مالك رضي الله عنهما كونهما لم يستدلا على والشافعي في ثبوت القيافة إلا بحديث أبي حنيفة مجزز المدلجي وهو رجل من آحاد الناس معرض للصواب والخطأ ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد صرح بالقيافة في هذه الأحاديث المتقدمة فكان الاعتماد على ما صدر عنه عليه السلام قولا وفعلا وهو معصوم من الخطأ أولى مما أقر عليه فإن حديث المدلجي إنما وجه الاستدلال منه بطريق الإقرار على ما قاله وأين إقرار النبي صلى الله عليه وسلم مما فعله هو بنفسه صلى الله عليه وسلم وتكرر منه مع أنه لم يوجد لأحد من الفقهاء استدلال بشيء من هذه الأحاديث على صحة القيافة وهذا عجب عظيم في عدولهم عن مدرك في غاية القوة والشهرة إلى ما هو أضعف منه بكثير ولم يعرج أحد منهم على القوي ألبتة
( جوابه ) أن لذلك موجبا حسنا وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه الله تعالى من وفور العقل وصفاء الذهن وجودة الفراسة أمرا عظيما بينه وبين غيره من أمته في ذلك فرق لا يدانى ولا يقارب وكذلك في حواسه وقوى جسده وجميع أحواله فكان يرى من وراء ظهره ويرى في الثريا أحد عشر كوكبا ونحن لا نرى فيها إلا ستة فلو استدل الفقهاء على بقيافته عليه السلام لم تقم الحجة على أبي حنيفة إذ كان له أن يقول إذا صحت القيافة من تلك الفراسة . النبوية القوية المعصومة عن الخطأ فمن أين لكم أن فراسة الخلق الضعيفة تدرك من الخلق ما يستدل به على الأنساب ولعلها عمياء عن ذلك بالكلية لقصورها ولم يبق فيها إلا حزر وتخمين باطل كما أنا عمينا في بقية كواكب الثريا لا ندركها ألبتة لضعفنا والبصر كالبصر وأنتم تقصدون بهذا الاستدلال ثبوت حكم القيافة إلى يوم القيامة فلا يتأتى لكم ذلك وإذا قال أبي حنيفة ذلك تعذر جوابه وبطل الاستدلال عليه ألبتة أما إذا استدل الفقهاء عليه بقضية أبو حنيفة مجزز المدلجي فقد استولوا بشيء يمكن وجوده إلى يوم القيامة فإن الأمة يمكن فيها ذلك لا سيما في هذه القبيلة [ ص: 129 ] فكان الاستدلال بذلك على ثبوت الحكم في القيافة إلى يوم القيامة استلالا صحيحا بخلاف الأول لتعذر وجود مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومثل فراسته القوية وهذا سبب عظيم يوجب العدول عن قيافة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قيافة غيره من الآحاد وهذا الموضع سؤالا وجوابا هو المقصود بذكر هذا الفرق لأجل ما اشتمل عليه من الغرابة وصعوبة الجواب فذكرته للتنبيه عليه سؤالا وجوابا .