وأما مكة على المدينة ، أو المدينة على مكة فبأمور نعلمها وأمور لا نعلمها فمن المعلوم كون تفضيل المدينة مهاجر [ ص: 230 ] سيد المرسلين وموطن استقرار الدين وظهور دعوة المؤمنين ومدفن سيد الأولين والآخرين وبها كمل الدين واتضح اليقين وحصل العز والتمكين وكان النقل من أهلها أفضل النقول وأصح المعتمدات ؛ لأن الأبناء فيه ينقلون عن الآباء والأخلاف عن الأسلاف فيخرج النقل عن حيز الظن والتخمين إلى حيز العلم واليقين ومن جهة النصوص بوجوه .
أحدها قوله صلى الله عليه وسلم { المدينة خير من مكة } وهو نص في الباب ويرد عليه أنه ، وإن كان نصا في التفضيل غير أنه مطلق في المتعلق فيحتمل أنها خير من جهة سعة الرزق والمتاجر فما تعين محل النزاع .
وثانيها دعاؤه صلى الله عليه وسلم بمثل ما دعا به إبراهيم صلى الله عليه وسلم لمكة ومثله معه ويرد عليه أنه مطلق في المدعو به فيحمل ما صرح به في الحديث وهو الصاع والمد .
وثالثها قوله صلى الله عليه وسلم { } وما هو أحب إلى الله يكون أفضل والظاهر استجابة دعائه صلى الله عليه وسلم وقد أسكنه اللهم إنهم أخرجوني من أحب البقاع إلي فأسكني أحب البقاع إليك المدينة فتكون أفضل البقاع وهو المطلوب ويرد عليه أن السياق لا يأبى دخول مكة في المفضل عليه لإياسه صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت فيكون المعنى فأسكني أحب البقاع إليك مما عداها ، وإذا لم تدخل مكة في المفضل عليه احتمل أن تكون أفضل من المدينة فتسقط الحجة مع أنه لم يصح من جهة النقل ولو صح فهو من مجاز وصف المكان بصفة ما يقع فيه كما يقال بلد طيب أي هواها والأرض المقدسة أي قدس من فيها ، أو من دخلها من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ؛ لأنهم مقدسون من الذنوب والخطايا وكذلك الوادي المقدس أي قدس موسى عليه السلام فيه والملائكة الحالون فيه وكذلك وصفه عليه الصلاة والسلام البقعة [ ص: 231 ] بالمحبة وهو وصف لها بما جعله الله تعالى فيها مما يحبه الله تعالى ورسوله وهي إقامته صلى الله عليه وسلم بها ، وإرشاد الخلق إلى الحق وقد اقتضى ذلك التبليغ وتلك القربات فبطل الوصف الموجب للتفضيل على هذا التقدير ، ورابعها قوله صلى الله عليه وسلم { } ويرد عليه سؤالان : لا يصبر على لأوائها وشدتها أحد إلا كنت له شفيعا وشهيدا يوم القيامة
أحدهما أنه يدل على الأفضل لا على الأفضلية
وثانيها أنه مطلق في الزمان فيحمل على زمانه صلى الله عليه وسلم والكون معه لنصرة الدين ويعضده خروج الصحابة رضوان الله عليهم بعد وفاته إلى الكوفة والبصرة والشام وغير ذلك من البلاد
وخامسها قوله صلى الله عليه وسلم { المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها } أي تأوي ويرد عليه أن ذلك عبارة عن إتيان المؤمنين لها بسبب وجوده صلى الله عليه وسلم فيها حال حياته فلا عموم له في الأزمان ولا بقاء لهذه الفضيلة بعده لخروج الصحابة رضي الله عنهم إلى إن الإيمان ليأرز إلى العراق وغيره وهم أهل الإيمان وخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حق فيحمل على زمان يكون الواقع فيه ذلك تحقيقا لصدقه صلى الله عليه وسلم .
وسادسها قوله صلى الله عليه وسلم { } ويرد عليه أنه مطلق في الأزمان فيحمل على زمانه صلى الله عليه وسلم لخروج الصحابة بعده فيلزم أن يكونوا خبثا وليس كذلك . إن المدينة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد
وسابعها قوله صلى الله عليه وسلم { } ويرد عليه أنه يدل على فضل ذلك الموضع لا ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة المدينة وأما مكة شرفها الله تعالى ففضلت بوجوه .
أحدها وجوب الحج والعمرة على الخلاف في وجوب العمرة والمدينة يندب لإتيانها ولا يجب .
وثانيها أن إقامة النبي صلى الله عليه وسلم كان بمكة بعد النبوة أكثر من المدينة فأقام بمكة ( ثلاث عشرة ) سنة وبالمدينة عشرا غير أنه يرد على هذا الوجه أن تلك العشرة كان كماله صلى الله عليه وسلم وكمال الدين فيها أتم وأوفر فلعل ساعة بالمدينة كانت أفضل من سنة بمكة ، أو من جملة الإقامة بها
وثالثها فضلت المدينة بكثرة الطارئين من عباد الله الصالحين وفضلت مكة بالطائفين من [ ص: 232 ] الأنبياء والمرسلين فما من نبي إلا حجها آدم فمن سواه ولو كان لملك داران فأوجب على عباده أن يأتوا إحداهما ووعدهم على ذلك بمغفرة سيئاتهم ورفع درجاتهم دون الأخرى لعلم أنها عنده أفضل .
ورابعها أن التعظيم والاستلام نوع من الاحترام وهما خاصان بالكعبة
وخامسها وجوب استقبالها يدل على تعظيمها
وسادسها تحريم استقبالها واستدبارها عند قضاء الحاجة يدل على تعظيمها ولم يحصل ذلك لغيرها
وسابعها تحريمها يوم خلق الله السموات والأرض ولم تحرم المدينة إلا في زمانه صلى الله عليه وسلم وذلك دليل فضلها
وثامنها كونها مثوى إبراهيم ، وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام
وتاسعها كونها مولد سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم
وعاشرها كونها لا تدخل إلا بإحرام وذلك يدل على تعظيمها
وحادي عشرها قوله تعالى { إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا }
وثاني عشرها الاغتسال لدخولها دون المدينة
وثالث عشرها ثناء الله تعالى على البيت الحرام { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين } واعلم أن قسمان : تفضيل دنيوي كتفضيل الربيع على غيره ، وكتفضيل بعض البلدان بالثمار والأنهار وطيب الهواء وموافقة الأهواء ، وديني كتفضيل رمضان على الشهور وعاشوراء على الأيام وكذلك يوم تفضيل الأزمان والبقاع عرفة وأيام البيض وعشر المحرم والخميس والاثنين ونحو ذلك مما ورد الشرع بتفضيله وتعظيمه من الأزمنة والبقاع نحو مكة والمدينة وبيت المقدس وعرفة والمطاف والمسعى ومزدلفة ومنى ومرمى الجمار ، ومن الأقاليم اليمن لقوله صلى الله عليه وسلم { الإيمان يمان والحكمة يمانية } والمغرب لقوله عليه الصلاة والسلام { المغرب قائمين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك } ومن الأزمنة الثلث الأخير من الليل فضله الله تعالى بإجابة الدعوات ومغفرة الزلات ، وإعطاء السؤال ونيل الآمال ، وأسباب التفضيل كثيرة لا أقدر على إحصائها خشية الإسهاب ، وإنما بعثني على الوصول فيها إلى هذه الغاية ما أنكره بعض فضلاء الشافعية على لا تزال طائفة من أهل رحمهما الله تعالى من قوله إن الأمة أجمعت على أن البقعة التي ضمت أعضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل البقاع فقال الثواب هو سبب التفضيل والعمل ههنا متعذر فلا ثواب فكيف يصح هذا الإجماع وشنع عليه كثيرا فأردت أن أبين تعدد الأسباب في ذلك فبطل ما قاله من الرد على القاضي عياض القاضي وبلغني أيضا عن أنه قال المأمون بن الرشيد الخليفة أربعة وكلها كملت في أسباب التفضيل علي رضي الله عنه فهو أفضل الصحابة وأخذ يرد بذلك على أهل السنة فأردت أيضا أن أبطل ما ادعاه من الحصر ، ومسائل التفضيل كثيرة بين الصحابة وبين الأنبياء والملائكة وهي أشبه بأصول الدين وهذا الكتاب إنما قصدت فيه ما يتعلق بالقواعد الفقهية خاصة فلذلك اقتصرت على تفضيل الصلاة ومكة والمدينة ؛ لأنها من المسائل الفقهية وأحلت ما عداها على موضعه والله الموفق .