( المسألة السادسة )
تصح ولذلك أحوال رؤية الله - تعالى - في النوم
( أحدها ) أن يراه في النوم على النحو الذي دل عليه المعقول والمنقول من صفات الكمال ونعوت الجلال له والسلامة من الصفات الدالة على الحدوث من الجسمية والتحيز والجهة فهذا نجوزه في الدنيا كما نجوزه في الآخرة ونجزم بوقوعه في الآخرة للمؤمنين ، ولكن من ادعى هذه الحالة ، وهو من غير أهلها من العصاة ، أو من المقصرين كذبناه ، أو من الأولياء المتقين لا نكذبه ونسلم له حالة وقوله تعالى { لا تدركه الأبصار } فيه تأويلات وهو عموم يقبل التخصيص ، وإخبار الولي الموثوق بدينه المبرز في عدالته يصلح لتقوية بعض التأويلات ولتخصيص هذا العام ، وخبر العدل مقبول في تخصيص العموم ، ونحن نقبل خبر الأولياء في وقوع الكرامات التي هي من خوارق العادات المحصلة للعلوم القطعيات فكيف في تخصيص العمومات التي لا تفيد إلا الظن فتأمل هذا
( وثانيها ) : أن يراه - سبحانه - في صورة مستحيلة عليه كمن يقول : رأيته في صورة رجل أو غير ذلك من الأجسام المستحيلة على الله - تعالى - وقد روي عن بعضهم أنه قال رأيت الله - تعالى - في صورة فرس وفهم هذا الرائي أن هذا الجسم من إنسان وغيره خلق من خلق الله - تعالى - وأمر وارد من قبله يقتضي حالة من هذا الرائي ويتقاضاها منه ، أو يأمره بخير أو ينهاه عن شر ، ويقول له : أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وامتثل أمري ونحو ذلك فهذه الحالة أيضا صحيحة جائزة على إطلاق لفظ الله - تعالى - على هذا الجسم ففي القرآن { وجاء ربك والملك صفا صفا } فعبر - تعالى - عن أمره الوارد من قبله باللفظ الخاص بالربوبية على وجه المجاز من باب إطلاق لفظ السبب على المسبب ولفظ المؤثر على الأثر ، وهو مجاز مشهور في لسان العرب ومسطور في كتب المجاز والحقيقة وفي التوراة جاء الله من سيناء وأشرق من ساغين واستعلن من جبال فاران إشارة إلى التوراة النازلة بطور سيناء [ ص: 247 ] والإنجيل النازل بساغين موضع بالشام والقرآن النازل بمكة واسمها فاران فيكون معناه أن الحق جاء من سيناء ، وهو التوراة وكثر ظهوره وعلنه بتقوية الإنجيل له فإن عيسى عليه السلام بعث لنصرة التوراة وتقويتها وإرادة العلانية والظهور ، واستكمل الحق واستوفيت المصالح ووصل البيان والكمال في الشرع إلى أقصى غاياته بالقرآن الكريم والشريعة المحمدية ، وسميت هذه الكتب باسم الله - تعالى ؛ لأنها من جهته وقبله على المجاز كما تقدم ، ومن ذلك { } الحديث على أحد التأويلات أنه تنزل رحمته فسماها باسمه لكونها من قبله ومن أثره كذلك هذه المثل القائلة في النوم أنا الله هو صحيح جائز على المجاز كما تقدم وجاء في الحديث { ينزل ربنا إلى سماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل } فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيهم في صورة وتسميته لهذه الصورة باسم الله تعالى هو على سبيل المجاز ؛ لأنها صورة من آثاره وفتنة يختبر بها خلقه ؛ فلهذه الملازمة والعلاقة حسن إطلاق لفظ الله - تعالى - عليها مجازا كما تقدم فكذلك هذه المثل في النوم حكمها حكم هذه الأجسام في اليقظة أن الله يأتي يوم القيامة للخلائق في صورة ينكرونها ويقولون لست ربنا
الحالة الثالثة أن يرى هذه الصورة الحسنة الجسمية ، ولا يعتقد أنها الله - عز وجل - حقيقة ، ولا يخطر له في النوم معنى المجاز ألبتة فهذه الرؤيا يحتمل أن تكون صحيحة ، ويكون المراد المجاز ، وهو جهل المجاز فكان الغلط منه لا في الرؤيا كما يرد اللفظ في اليقظة ، والمراد به المجاز والسامع يفهم الحقيقة كما اتفق للحشوية في آيات الصفات فكان الغلط منهم لا في الآيات الواردة ، ويحتمل أن تكون هذه الرؤيا كذبا ومحالا ، والشيطان يخيل له بذلك ليضله أو يخزيه ، أو غير ذلك من مكائده - لعنه الله - فهذه الرؤيا موضع التثبت والخوف من الغلط ، وإذا استيقظ هذا الرائي وجب عليه أن يجزم بأن الذي رآه ليس ربه على الحقيقة بل أحد الأمرين المتقدمين واقع له وينظر ما يقتضيه الحال منهما فيعتقده فإن أشكل عليه الأمر أعرض عن الرؤيا بالكلية حتى يتضح الصواب فإن اعتقد أنها حق ، وأن الذي رآه ربه فهو كافر ، وقد كفر بهذا الاعتقاد الناشئ له عن هذه الرؤيا بناء على القول بتكفير الحشوية وقد يكون ذلك الجسم وتلك الحالة فيها من الحقارة ومنافاة الربوبية ما يجمع الأمة على تكفيره وتكفره الحشوية وغيرهم كصورة الدجال ونحوها فإن القول بأن الحشوية ليست كفارا إنما هو مع قولهم بالتنزه عن العور [ ص: 248 ] والعمى والآفات والنقائص بل اقتصروا على الجسمية خاصة مع التنزيه عن جميع ذلك فمن اعتقد الجسمية مع بعض صفات النقص فأول من يكفره الحشوية فتأمل ذلك ، ومنه ما تقدم من أنه رآه في صورة فرس ، أو غير ذلك من السباع أو غيرها فهذا كله كفر لا يختلف فيه ، ولا يتخرج على الخلاف في الحشوية ، وكذلك إذا قال : رأيته في طلق أو خزانة أو مطمورة أو نحو ذلك مما تحيله الحشوية وأهل السنة على الله - تعالى - فتأمل ذلك فهذا تفصيل الأحوال في رؤية الله - تعالى -
[ ص: 247 - 248 ]