تفسير سورة الطارق
وهي مكية لا خلاف بين المفسرين في ذلك.
قوله عز وجل:
والسماء والطارق وما أدراك ما الطارق النجم الثاقب إن كل نفس لما عليها حافظ فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب إنه على رجعه لقادر يوم تبلى السرائر فما له من قوة ولا ناصر
المعروفة في قول جمهور المفسرين، وقال قوم: السماء هنا المطر، أقسم الله تعالى بالسماء والعرب تسمي سماء لما كان من السماء وتسمي السحاب سماء، قال الشاعر :
إذا نزل السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا
وقال : النابغة
كالأقحوان غداة غب سمائه . . . . . . . . . . . .
[ ص: 583 ] و"الطارق": الذي يأتي ليلا، وهو اسم جنس لكل ما يظهر ويأتي ليلا، ومنه ومنه الخيال، وقال الشاعر: نهى النبي صلى الله صلى الله عليه وسلم الناس من أسفارهم أن يأتي الرجل أهله طروقا،
يا نائم الليل مغترا بأوله إن الحوادث قد يطرقن أسحارا
ثم بين الله تعالى الطارق الذي قصد من الجنس المذكور وهو "النجم الثاقب"، وقيل: بل معنى الآية: والسماء وجميع ما يطرق فيها من الأمور والمخلوقات، ثم ذكر تعالى بعد ذلك -على جهة التنبيه- أجل الطارقات قدرا وهو النجم الثاقب.
فكأنه تعالى قال: وما أدراك حق الطارق.
واختلف المتأولون في "النجم الثاقب"، فقال ما معناه إنه اسم الجنس، لأنها كلها باقية أي ظاهرة الضوء: يقال: ثقب النجم إذا أضاء، وثقبت النار، كذلك، وثقبت الرائحة إذا سطعت، ويقال للموقد; اثقب نارك، أي أضئها. وقال الحسن بن أبي الحسن : أراد نجما مخصوصا وهو زحل، ووصفه بالثقوب لأنه مبرز على الكواكب في ذلك، وقال ابن زيد : أراد الجدي، وقال بعض هؤلاء: ثقب النجم، إذا ارتفع، فإنما وصف زحلا بالثقوب لأنه أرفع الكواكب مكانا، وقال ابن عباس أيضا وغيره: النجم الثاقب: الثريا، وهو الذي تطلق عليه ابن زيد العرب اسم الجنس معرفا.
[ ص: 584 ] وجواب القسم في قوله تعالى: إن كل نفس ، وقرأ جمهور الناس: "لما" مخففة الميم، قال الحذاق من النحويين وهم البصريون: "إن" مخففة من الثقيلة، واللام لام التأكيد الداخلة على الخبر، وقال الكوفيون: "إن" بمعنى "ما" النافية، واللام بمعنى "إلا"، فالتقدير: ما كل نفس إلا عليها حافظ، وقرأ ، عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي والحسن ، والأعرج ، وأبو عمرو -بخلاف عنهما- ونافع : "لما" بتشديد الميم، وقال وقتادة : "لما" بمعنى "إلا"، لغة مشهورة في أبو الحسن الأخفش هذيل وغيرهم، تقول أقسمت عليك لما فعلت كذا، أي: إلا فعلت كذا.
ومعنى هذه الآية، -فيما قال قتادة وغيرهما- إن كل نفس مكلفة فعليها حافظ يحصي أعمالها ويعدها للجزاء عليها، وبهذا الوجه تدخل الآية في الوعيد الزاجر. وقال وابن سيرين : المعنى: عليها حافظ يحفظها حتى يسلمها إلى القدر، وهذا قول فاسد المعنى لأن مدة الحفظ إنما هي بقدر، وقال الفراء : قال النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير هذه الآية" أبو أمامة "إن ولو وكل المرء إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الغير والشياطين". لكل نفس حفظة من الله تعالى يذبون عنها كما يذب عن العسل،
وقوله تعالى: فلينظر الإنسان مم خلق توقيف لمنكري على ثم بادر اللفظ إلى الجواب اقتضابا وإسراعا إلى إقامة الحجة; إذ لا جواب لأحد إلا هذا، "دافق" قال كثير من المفسرين: هو بمعنى مدفوق، وقال أصل الخلقة الدالة على أن البعث جائز ممكن، الخليل : هو على النسب، أي: ذا دفق، والدفق: دفق الماء بعضه ببعض كدفع الوادي والسيل إذا جاء يركب بعضه بعضا، ويصح أن يكون [ ص: 585 ] الماء دافقا لأن بعضه يدفع بعضا، فمنه دافق ومنه مدفوق. وسيبويه
قوله تعالى: يخرج من بين الصلب والترائب ، قال قتادة وغيرهما: معناه: من بين صلب كل واحد من الرجل والمرأة وترائبه، وقال والحسن سفيان أيضا وجماعة: وقتادة والضمير في "يخرج" يحتمل أن يكون للإنسان، ويحتمل أن يكون للماء، وقرأ الجمهور: "الصلب" بسكون اللام وقرأ أهل من بين صلب الرجل وترائب المرأة، مكة : "الصلب" بضم اللام على الجمع. و"التريبة" من الإنسان: ما بين الترقوة إلى الثدي، قال وعيسى : معلق الحلي على الصدر، وجمع ذلك: "تريب"، قال أبو عبيدة المثقب العبدي:
ومن ذهب يسن على تريب كلون العاج ليس بذي غضون
وقال امرؤ القيس:
. . . . . . . . . . ترائبها مصقولة كالسجنجل
فجمع التريبة وما حولها فجعل ذلك ترائب. وقال عن مكي : إن "الترائب" أطراف المرء، رجلاه ويداه وعيناه، وقال ابن عباس : الترائب جمع تريبة وهي عصارة القلب، ومنها يكون الولد، وفي هذه الأقوال تحكم على اللغة، وقال معمر رضي الله عنهما: الترائب موضع القلادة، وقال أيضا: هي ما بين ثديي المرأة، وقال ابن عباس : هي أضلاع الرجل التي أسفل الصلب، وقال ابن جبير : هي الصدر، وقال [ ص: 586 ] هي التراقي، وقال: هي ما بين المنكبين والصدر. مجاهد
وقوله تعالى: إنه على رجعه الضمير في "إنه" لله تعالى، واختلف المفسرون في الضمير في "رجعه" فقال ، ابن عباس : هو عائد على الإنسان، أي: على وقتادة وقال رده حيا بعد موته، : هو عائد على الإنسان لكن المعنى: يرجعه ماء كما كان أولا، وقال الضحاك أيضا: يرجعه من الكبر إلى الشباب، وقال الضحاك ، عكرمة : هو عائد على الماء، أي يرده في الإحليل، وقيل: في الصلب، والعامل في "يوم" -على هذين القولين الأخيرين- فعل مضمر تقديره: اذكر يوم تبلى السرائر، وعلى القول الأول، -وهو أظهر الأقوال وأبينها- اختلفوا في العامل في "يوم" فقال بعضهم: العامل "ناصر" من قوله تعالى: "ولا ناصر"، وقيل: العامل "الرجع" من قوله تعالى: "على رجعه"، قالوا: وفي المصدر من القوة بحيث يعمل وإن حال خبران بينه وبين معموله، وقيل: العامل فعل مضمر تقديره: "إنه على رجعه لقادر يرجعه يوم تبلى السرائر"، وكل هذه الفرق فرت من أن يكون العامل "قادر"; لأن ذلك يظهر منه تخصيص القدرة في ذلك اليوم وحده، وإذا تؤمل المعنى وما يقتضيه فصيح كلام ومجاهد العرب جاز أن يكون العامل "قادر"، وذلك أنه قال: إنه على رجعه لقادر، أي: على الإطلاق أولا وآخرا وفي كل وقت، ثم ذكر تعالى وخصص من الأوقات الوقت الأهم على الكفار; لأنه وقت الجزاء والوصول إلى العذاب، فتجتمع النفوس إلى حذره والخوف منه.
و"تبلى السرائر" معناه: تختبر وتكشف بواطنها، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أبو الدرداء أن السرائر التي يبتليها الله تعالى من العباد: التوحيد والصلاة والزكاة والغسل من الجنابة. وصوم رمضان.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
هذه عظم الأمر. وقال : الوجه في الآية العموم في جميع السرائر، وليس يمتنع في الدنيا من المكاره إلا بأحد الوجهين: إما بقوة في ذات الإنسان وإما بناصر [ ص: 587 ] خارج عن ذاته، فأخبره الله تعالى عن الإنسان أنه يعدمهما يوم القيامة فلا يعصمه من أمر الله تعالى شيء. أبو قتادة