الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا أعد الله لهم عذابا شديدا فاتقوا الله يا أولي الألباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا

"كأين" هي كاف الجر دخلت على "أي"، وهذه قراءة الجمهور، وقرأ ابن كثر، وعبيد عن أبي عمرو : "وكائن" ممدودة مهموزة، كما قال الشاعر:


وكائن بالأباطح من صديق . . . . . . . . . .



[ ص: 335 ] وقرأ بعض القراء: "وكاين" بتسهيل الهمزة، وفي هذين الوجهين قلب; لأن الياء قبل الألفات. و"العتو": ترك الائتمار والقبول.

وقوله تعالى: "فحاسبناها" قال بعض المتأولين: الآية في الآخرة، أي: ثم هو الحساب والتعذيب والذوق وخسار العاقبة، وقال آخرون: ذلك في الدنيا، ومعنى ( حاسبناها حسابا شديدا ) لم نغتفر لهم زلة بل أخذوا بالدقائق من الذنوب. وقرأ نافع ، وأبو بكر وابن ذكوان : "نكرا" بضم الكاف، وأسكنها الباقون، وهي قراءة عيسى، وقوله تعالى: أعد الله لهم عذابا شديدا يظهر منه أنه بيان لوجه خسران عاقبتهم، فيتأيد بذلك أن تكون المحاسبة والتعذيب والذوق في الدنيا.

ثم ندب تعالى أولي الألباب إلى التقوى تحذيرا، وقوله تعالى: الذين آمنوا صفة لـ "أولي الألباب"، وقرأ نافع ، وابن عامر : "ندخله" بالنون، وكذلك روى المفضل عن عاصم ، وقرأ الباقون بالياء، وقوله تعالى: قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا ، اختلف الناس في تقدير ذلك، فقال قوم من المتأولين: المراد بالاسمين القرآن، و "رسولا" بمعنى رسالة، وذلك موجود في كلام العرب، وقال آخرون: "رسولا" نعت أو كالنعت لقوله سبحانه، "ذكرا" فالمعنى ذكرا ذا رسول، وقيل "الرسول": ترجمة عن "الذكر" كأنه بدل منه، وقال آخرون: المراد بهما جميعا محمد، والمعنى: ذا ذكر رسولا، وقال بعض حذاق المتأولين: الذكر اسم من أسماء الرسول عليه الصلاة والسلام، واحتج بهذا القاضي أبو بكر الباقلاني في تأويل قوله تعالى: ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث ، وقال بعض النحاة: معنى الآية: ذكرا بعث رسولا، فهو منصوب بإضمار فعل، وقال أبو علي الفارسي : يجوز أن يكون "رسولا" معمولا للمصدر الذي هو الذكر.

[ ص: 336 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وأبين الأقوال عندي معنى أن يكون "الذكر" للقرآن، و"الرسول" محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى: بعث رسولا، لكن الإيجاز اقتضى اختصار الفعل الناصب للرسول، ونحا هذا المنحى السدي .

وقرأ نافع وابن كثر، وأبو عمرو ، وأبو بكر : "مبينات" بفتح الياء، وقرأها بكسر الياء ابن عامر ، وحفص ، وحمزة ، والكسائي ، والحسن ، والأعمش ، وعيسى . وسائر الآية بين، والرزق المشار إليه رزق الجنة لدوامه ودروره.

التالي السابق


الخدمات العلمية