الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( ومنها ) أن لا يكون قاتل الموصي قتلا حراما على سبيل المباشرة ، فإن كان ; لم تصح الوصية له عندنا وبه أخذ الشافعي - رحمه الله - وقال مالك - رحمه الله - هذا ليس بشرط ، وتصح الوصية للقاتل ، واحتج بما ذكرنا من الدلائل لجواز الوصية في أول الكتاب من غير فصل بين القاتل وغيره ; ولأن الوصية تمليك ، وتملك والقتل لا ينافي أهلية التمليك .

                                                                                                                                ( ولنا ) ما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : { لا وصية لقاتل } وهذا نص ويروى أنه قال : { ليس لقاتل شيء } ذكر الشيء نكرة في محل النفي فتعم الميراث والوصية جميعا وبه تبين أن القاتل مخصوص عن عمومات الوصية ; ولأن الوصية أخت الميراث ولا ميراث للقاتل لما روي عن سيدنا عمر وسيدنا علي رضي الله عنهما أنهما لم يجعلا للقاتل ميراثا وعن عبيدة السلماني أنه قال : لا يرث قاتل بعد صاحب البقرة ويروى لا يورث قاتل بعد صاحب البقرة .

                                                                                                                                وهذا منه بيان لإجماع المسلمين من زمن سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام إلى زمن التابعين رضي الله عنهم على أنه لا ميراث للقاتل ، وذكر محمد - رحمه الله - هذه الآثار في الأصل .

                                                                                                                                وقال : والوصية عندنا بمنزلة ذلك لا وصية للقاتل ; ولأن الورثة تتأذى بوضع الوصية في القاتل ، كما يتأذى البعض بوضعها في البعض فيؤدي إلى قطع الرحم ، وإنه حرام ; ولأن المجروح إذا صار صاحب فراش ، فقد تعلق حق الورثة بماله نظرا لهم لئلا يزيل المورث ملكه إلى غيرهم لعداوة ، أو أذى لحقه من جهتهم فيتضررون بذلك لكن مع بقاء ملك المورث نظرا له لحاجته إلى دفع حوائجه الأصلية وسبب ثبوت حقهم في مرض الموت ما هو سبب ثبوت ملكهم بعد الموت ، وهو القرابة ، فكان ينبغي أن لا يملك التبرع بشيء من ماله إلا أنه ملك ذلك على غير القاتل والوارث .

                                                                                                                                بخلاف القياس ، فيبقى الأمر فيهما على أصل القياس ; ولأن القتل بغير حق جناية عظيمة ، فتستدعي الزجر بأبلغ الوجوه ، وحرمان الوصية يصلح زاجرا لحرمان الميراث فيثبت وسواء كان القتل عمدا أو خطأ ; لأن القتل الخطأ قتل وإنه جاز المؤاخذة عليه عقلا وسواء أوصى له بعد الجناية أو قبلها ; لأن الوصية إنما تقع تمليكا بعد الموت فتقع وصية للقاتل تقدمت الجناية ، أو تأخرت ولا تجوز الوصية لعبد القاتل كان على العبد دين ، أو لم يكن ولا لمكاتبه لما ذكرنا في عبد الوارث ومكاتبه وتجوز الوصية لابن القاتل ولأبويه ولجميع قرابته ; لأن ملك كل واحد منهما منفصل عن ملك صاحبه ، فلا تكون الوصية لأحدهما وصية لصاحبه .

                                                                                                                                ولو اشترك عشرة في قتل رجل ، فأوصى لبعضهم بعد الجناية لم تصح ; لأن كل واحد منهم قاتل على الكمال حين وجب القصاص على كل واحد منهم ، فكانت وصية لقاتله ، فلم تصح ، ولو كان أحدهم عبد الموصي فأوصى لبعضهم بعد الجناية ، وأعتق عبده ، ثم مات ، فالوصية باطلة ، ولا يبطل العتق ، ولكن العبد يسعى في قيمته ( وأما ) بطلان الوصية فلما ذكرنا أن كل واحد منهم قاتل ، فكان الموصى له قاتلا ، فلم تصح الوصية له ( وأما ) صحة الإعتاق ونفاذه ففيه ضرب إشكال وهو أن الإعتاق حصل في مرض الموت ، والإعتاق في مرض الموت وصية ، والوصية للقاتل لا تصح ، والعبد قاتل ، فينبغي أن لا ينفذ إعتاقه ، والجواب عنه من وجهين أحدهما أن الإعتاق في مرض الموت ليس بوصية حقيقة ; لأن الوصية تمليك والإعتاق إسقاط الملك وإزالته لا إلى أحدهما متغايران بل متنافيان حقيقة ، وكذا الإعتاق ينجر حكمه للحال وحكم الوصية يتأخر إلى ما بعد الموت فلم يكن الإعتاق في مرض الموت وصية حقيقة إلا أنه يشبه الوصية من حيث إنه يعتبر من الثلث لا غير والثاني إن كان في معنى الوصية فالوصية بالإعتاق مردودة من حيث المعنى .

                                                                                                                                وإن كانت نافذة صورة ألا [ ص: 340 ] ترى أن العبد يسعى في قيمته والسعاية قيمة الرقبة ، فكانت السعاية ردا للوصية معنى ، والعتق بعد وقوعه ، وإن كان لا يحتمل النقض صورة يحتمله معنى برد السعاية التي هي قيمة الرقبة .

                                                                                                                                ولو أوصى لعبده بالثلث ، ثم قتله العبد لم تصح وصيته ، غير أنه يعتق ، ويسعى في جميع قيمته أما بطلان الوصية فلأنه وصية للقاتل .

                                                                                                                                وأما نفاذ العتق فلأن الوصية للقاتل ليست بباطلة ، بل هي صحيحة ألا ترى أنها تقف على إجازة الورثة في ظاهر الرواية ، فإذا أوصى له بثلث ماله ، فقد أوصى له بثلث رقبته ; لأن رقبته من ماله ، فدخلت تحت الوصية بالثلث ، فلما مات الموصى ملك ثلث رقبته وتمليك ثلث رقبته منه يكون إعتاقا لثلثه عند الموت ، فيعتق ثلثه عند الموت ، ثم ينقض من حيث المعنى برد السعاية ، كما لو أعتقه نصا في مرض موته ، أو أضاف العتق إلى ما بعد الموت بالتدبير غير أن عند أبي حنيفة رضي الله عنه وقعت الوصية له بثلث الرقبة .

                                                                                                                                لأن الإعتاق متجزئ عنده فيعتق ثلث رقبته ويسعى في ثلثيه ; لأنه معتق البعض ويسعى في ذلك الثلث الذي عتق ردا للوصية معنى بالسعاية ; لأنه لا وصية للقاتل فيرد برد السعاية ، وعندهما وقعت الوصية له بكل الرقبة ; لأنه عتق كله ; لأن الإعتاق لا يتجزأ عندهما ، ومتى عتق كله يسعى في كل قيمته ردا للوصية معنى فاتفق الجواب ، وهو السعاية في جميع قيمته ، وإنما اختلف الطريق ، ولو أوصى للقاتل ، ثم أجازت الورثة الوصية بعد موت الموصى ذكر في الأصل أنه يجوز ، ولم يذكر خلافا ، وذكر في الزيادات أن على قول أبي يوسف لا يجوز ، وسكت عن قولهما ، فيدل على الجواز عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - ، لأبي يوسف ما روينا عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : { لا وصية لقاتل } وقال عليه الصلاة والسلام { ليس لقاتل شيء } من غير فصل بين حال الإجازة وعدمها .

                                                                                                                                ولأن المانع من الجواز هو القتل ، والإجازة لا تمنع القتل ، ولهما أن امتناع الجواز كان لحق الورثة ; لأنهم يتأذون بوضع الوصية في القاتل أكثر مما يتأذى البعض بإيثار البعض بالوصية ، ثم جازت الوصية للبعض بإجازة الباقين ، فههنا أولى ، والدليل على أن المانع هو حق الورثة أن الورثة ينتفعون ببطلان الوصية للقاتل ، وحق الإنسان ما ينتفع به ، فإذا جازوا ، فقد زال المانع ، فجازت ; ولهذا جازت الوصية لبعض الورثة بإجازة الباقين كذا هذا ، ولو كان القتل قصاصا لا يمنع صحة الوصية ; لأنه ليس بقتل حرام .

                                                                                                                                وكذا لو كان القاتل صبيا ; لأن قتله لا يوصف بالحرمة ; ولهذا لم يتعلق بشيء من ذلك حرمان الميراث ، فكذا حرمان الوصية .

                                                                                                                                وكذا القتل تسبيبا لا يمنع جواز الوصية ، كما لا يمنع حرمان الميراث على ما عرف في كتاب الفرائض .

                                                                                                                                وأما الإقرار للقاتل بالدين ، فإن صار صاحب فراش لم يجز ، وإن كان يذهب ، ويجيء ; جاز ; لأن إقرار المريض مرض الموت في معنى الوصية ألا ترى أنه لا يصح لوارثه ، كما لا تصح وصيته له ، وإذا كان يذهب ، ويجيء كان في حكم الصحيح فيجوز ، كما لو أقر لوارثه في هذه الحالة .

                                                                                                                                وكذا الهبة في المرض في معنى الوصية ، فلا تصح للقاتل ، وعفو المريض عن القاتل في دم العمد جائز لقوله تعالى { وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم } مطلقا من غير فصل بين حال المرض والصحة ; ولأن المانع من نفاذ تصرف المريض هو تعلق حق الورثة ، أو الغرماء ، وإنما يتعلق حقهم بالمال ، والقصاص ليس بمال ، وبهذا علل في الأصل ، وإن كان القتل خطأ ; يجوز العفو من الثلث ; لأن القتل الخطأ يوجب المال ، فكان عفوه بمنزلة الوصية بالمال وإنها جائزة من الثلث ودلت هذه المسألة على أن الدية كلها تجب على العاقلة ، ولا يجب على القاتل شيء ; لأنه لو وجب لم يصح عفوه من الثلث في حصة القاتل ; لأنه يكون وصية للقاتل في ذلك القدر ، ولا وصية للقاتل ، ولما جاز العفو ههنا من الثلث علم أن الدية لا تجب على القاتل ، وإنما تجب على عاقلة القاتل حتى تكون وصية لعاقلة القاتل ، ثم الوصية للقاتل إنما لا تجوز إذا لم تجز الورثة ، فإن أجازوا ; جازت ، ولم يذكر في الأصل اختلافا وذكر في الزيادات قول أبي يوسف إنها لا تجوز ، وإن أجازت الورثة ، وسكت عن قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهم الله - تعالى وجه قول أبي يوسف أن المانع من الجواز هو القتل ، وإنه لا ينعدم بالإجازة ; ولهذا حرم الميراث أجازته الورثة أو لا ; ولأنه لما قتله بغير حق صار كالحربي والوصية للحربي لا تجوز ، أجازت الورثة أم لم تجز كذا القاتل وجه ظاهر الرواية أن عدم الجواز لمكان حق الورثة لما ذكرنا في الوصية لبعض الورثة ، فيجوز عند إجازتهم ، كما جازت لبعض الورثة عند إجازة الباقين [ ص: 341 ] بل أولى ; لأن من الناس من يقول بجواز الوصية للقاتل وهو مالك ، ولا أحد يقول بجواز الوصية للوارث ، فلما لحقتها الإجازة هناك فلأن تلحقها ههنا أولى .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية