الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                وأما الرجعة فلعموم قوله تبارك وتعالى { وبعولتهن أحق بردهن } عاما من غير تخصيص ، ولأن الرجعة لا تخلو من أن تكون بالقول أو بالفعل وهو الوطء واللمس عن شهوة والنظر إلى الفرج عن شهوة والإكراه لا يعمل على النوعين فلا يمنع جوازها ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

                                                                                                                                وأما اليمين والنذر بأن أكره على أن يوجب على نفسه صدقة أو حجا أو شيئا من وجوه القرب والظهار والإيلاء والفيء في الإيلاء فلعمومات النصوص الواردة في هذه الأبواب من غير تخصيص الطبائع قال الله تبارك وتعالى { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } وقال سبحانه وتعالى { وليوفوا نذورهم } وقال جل شأنه { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } أي بالعهود ، ولأن النذر يمين وكفارته كفارة اليمين على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال سبحانه وتعالى { والذين يظاهرون من نسائهم } وقال جلت عظمته وكبرياؤه { للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر ، فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم ، وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم } ، ولأن هذه تصرفات قولية .

                                                                                                                                وقد مر أن الإكراه [ ص: 186 ] لا يعمل على الأقوال والفيء في الإيلاء في حق القادر بالجماع وفي حق العاجز بالقول ، والإكراه لا يؤثر في النوعين جميعا فكان طائعا في الفيء فتلزمه الكفارة ولا تلزمه في هذه التصرفات من الكفارة والقربة المنذور بها على المكره ; لأن الكفارة وجبت على المكره على سبيل التوسع ، وكذا المنذور به ; لأن الأمر بها مطلق عن الوقت وهما مما لا يجبر على فعلهما أيضا فلو وجب على المكره لكان لا يخلو من أن يجب عليه على الوجه الذي وجب على المكره أو على الوجه الذي وجب عليه ولا سبيل إلى الأول ; لأن الإيجاب على هذا الوجه لا يفيد المكره شيئا فلا معنى لرجوعه عليه ولا سبيل إلى الثاني ; لأنه يؤدي إلى تغيير المشروع من وجهين : أحدهما جعل الموسع مضيقا ، والثاني جعل ما لا يجبر على فعله مجبورا على فعله ، وكل ذلك تغيير ولا يجوز تغيير المشروع من وجه فكيف يجوز من وجهين ؟ وكذا في الإيلاء إذا لم يقربها حتى بانت بتطليقة لا يرجع بما لزمه على المكره ; لأنه إنما لزمه ترك القربان وهو مختار في تركه ; لأنه يمكنه أن يقربها في المدة حتى لا تبين فلا يلزمه فإذا لم يقرب كان ترك القربان حاصلا باختياره فلا يكون مضافا إلى المكره ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

                                                                                                                                ولو أكره على كفارة اليمين لم يرجع على المكره ; لأنها لزمته بفعله .

                                                                                                                                ولو أكره على أن يعتق عبده عن ظهاره ينظر إن كانت قيمته قيمة عبد وسط لا يرجع على المكره بشيء ; لأن ذلك وجب عليه بفعله فلا يرجع به عليه ، وإن كانت قيمته أكثر من ذلك يرجع عليه بالزيادة ; لأنه أتلف ذلك القدر عليه ; لأن الزيادة على عبد وسط لا تجب عليه بالظهار ولا تجزيه عن الظهار ; لأنه إعتاق دخله عوض والإعتاق بعوض ، وإن قل لا يجزي عن التكفير .

                                                                                                                                وأما العفو عن دم العمد فلعمومات قوله تبارك وتعالى { فمن تصدق به فهو كفارة له } ولقوله به أي بالقصاص ; لأنه أقرب المذكور والتصدق بالقصاص هو العفو وقوله عز شأنه { ، وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم } فقد ندب سبحانه وتعالى إلى العفو عاما ، ولأنه تصرف قولي فلا يؤثر فيه الإكراه ولا ضمان على المكره ; لأنه لم يوجد منه إتلاف المال ; لأن القصاص ليس بمال ، ولهذا لا يجب الضمان على شهود العفو إذا رجعوا والله سبحانه وتعالى أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية