الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل

وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا

لما أخبر تعالى عن القوم الذين حتم بكفرهم أنهم لا يهتدون أبدا، عقب ذلك [ ص: 627 ] بأنه للمؤمنين الغفور ذو الرحمة، ويتحصل للكفار من صفته تبارك تعالى بالغفران والرحمة ترك المعاجلة، ولو أخذوا بحسب ما يستحقونه لبادرهم بالعذاب الميسر لهم، ولكنه تعالى أخرهم إلى موعد لا يجدون منه منجى، قالت فرقة: هو أجل الموت، وقالت فرقة: هو عذاب الآخرة، وقال الطبري : هو يوم بدر والحشر، و "الموئل": المنجى، يقال: وأل الرجل يئل إذا نجا. ومنه قول الشاعر:


لا وألت نفسك خليتها ... للعامريين ولم تكلم



ومنه قول الأعشى :


فقد أخالس رب البيت غفلته ...     وقد يحاذر مني ثم ما يئل



ثم عقب تعالى توعدهم بذكر الأمثلة من القرى التي نزل بها ما توعد هؤلاء بمثله. وفي قوله تعالى: وتلك القرى حذف مضاف، تقديره: وتلك أهل القرى، و"القرى": المدن، وهذه الإشارة إلى عاد وثمود ومدين وغيرهم، و"تلك" ابتداء، [ ص: 628 ] و"القرى" صفة، و"أهلكناهم" خبر، ويصح أن تكون "تلك" منصوبا بفعل يدل عليه "أهلكناهم".

وقرأ الجمهور: "لمهلكهم" بضم الميم وفتح اللام، وهو من: "أهلك"، ومفعل في مثل هذا يكون لزمن الشيء، ومكانه، ويكون مصدرا، فالمصدر - على هذا- مضاف إلى المفعول. وقرأ عاصم -في رواية أبي بكر -: "لمهلكهم" بفتح الميم واللام، وقرأ - في رواية حفص -: "لمهلكهم" بفتح الميم وكسر اللام، وهو مصدر من: "هلك"، وهو في مشهور اللغة غير متعد، فالمصدر -على هذا- مضاف إلى الفاعل، لأنه بمعنى: وجعلنا لأن هلكوا موعدا، وقالت فرقة: إن "هلك" يتعدى، تقول: أهلكت الرجل وهلكته بمعنى واحد، وأنشد أبو علي في ذلك:


ومهمه هالك من تعرجا



فعلى هذا يكون المصدر في كل وجه مضافا إلى المفعول.

وقوله تعالى: وإذ قال موسى الآية... ابتداء قصة ليست من الكلام الأول، والمعنى: اذكر أو اتل، و" موسى " هو موسى بن عمران بمقتضى الأحاديث والتواريخ، وبظاهر القرآن; إذ ليس في القرآن موسى غير واحد، وهو ابن عمران،ولو كان في هذه الآية غيره لبينه. وقالت فرقة منها نوف البكالي: إنه ليس ابن عمران، وهو موسى بن مثنى، ويقال: موسى ابن منشى، وأما فتاه فعلى قول من قال موسى بن عمران فهو يوشع بن نون بن إفراييل بن يوسف بن يعقوب، وأما من قال هو موسى بن مثنى فليس الفتى بيوشع بن نون، ولكنه قولا غير صحيح رده ابن عباس رضي الله عنهما وغيره. و "الفتى" في كلام العرب : الشاب، ولما كان الخدمة -أكثر ما يكون- فتيانا قيل للخادم: فتى على جهة حسن الأدب، وإن أسن، وندبت الشريعة إلى ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يقل أحدكم عبدي ولا أمتي، وليقل فتاي [ ص: 629 ] وفتاتي" ، فهذا ندب إلى التواضع، و "الفتى" في الآية هو الخادم، ويوشع بن نون يقال: هو ابن أخت موسى عليه السلام.

وسبب هذه القصة فيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن موسى جلس يوما في مجلس لبني إسرائيل وخطب فأبلغ، فقيل له: هل تعلم أحدا أعلم منك؟ قال: لا، فأوحى الله تعالى إليه: بلى، عبدنا خضر، فقال: يا رب، دلني على السبيل إلى لقيه، فأوحى الله تعالى إليه أن يسير بطول سيف البحر حتى يبلغ مجمع البحرين، فإذا فقدت الحوت فإنه هنالك، وأمر أن يتزود ويرتقب زواله عنه، ففعل موسى ذلك، وقال لفتاه على جهة إمضاء العزيمة: لا أبرح السير، أي: لا أزال، وإنما قال هذه المقالة وهو سائر، ومن هذا قول الفرزدق:


فما برحوا حتى تهادت نسؤهم ...     ببطحاء ذي قار عياب اللطائم



وذكر الطبري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لما ظهر موسى عليه السلام وقومه على مصر أنزل قومه بمصر ، فلما استقر الحال خطب يوما فذكر بآلاء الله وأيامه عند بني إسرائيل ثم ذكر نحو ما تقدم.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وما مر بي قط أن موسى عليه السلام أنزل قومه بمصر إلا في هذا الكلام، وما أراه يصح، بل المتظاهر أن موسى عليه السلام مات بفحص التيه قبل فتح ديار الجبارين، [ ص: 630 ] وفي هذه القصة من الفقه الرحلة في طلب العلم، والتواضع للعالم.

وقرأ الجمهور: "مجمع" بفتح الميمين، وقرأ الضحاك: "مجمع" بكسر الميم الثانية.

واختلف الناس في "مجمع البحرين"، أين هو؟ فقال مجاهد ، وقتادة : هو مجمع بحر فارس وبحر الروم.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهو ذراع يخرج من البحر المحيط من شمال إلى جنوب في أرض فارس من وراء أذربيجان، فالركن الذي لاجتماع البحرين مما يلي بر الشام، هو "مجمع البحرين" على هذا القول، وقالت فرقة منهم محمد بن كعب : مجمع البحرين هو عند طنجة، وهو حيث يجتمع البحر المحيط والبحر الخارج منه السائر من دبور إلى صبا، وروي عن أبي بن كعب أنه قال: "مجمع البحرين" بإفريقية، وهذا يقرب من الذي قبله. وقال بعض أهل العلم: هو بحر الأندلس من البحر المحيط.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذا كله واحد، حكاه النقاش، وهذا مما يذكر كثيرا. ويذكر أن القرية التي أبت أن تضيفهما هي الجزيرة الخضراء، وقالت فرقة: "مجمع البحرين"، يريد بحرا ملحا وبحرا عذبا.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

فعلى هذا إنما كان الخضر عند موقع نهر عظيم في البحر. وقالت فرقة: البحران إنما هما كناية عن موسى عليه السلام والخضر ; لأنهما بحرا علم.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذا قول ضعيف، والأمر بين من الأحاديث أنه إنما رسم له بحر ما. وقوله: أو أمضي حقبا معناه: أو أمضي على وجهي زمانا، واختلف القراء -فقرأ الحسن ، والأعمش ، وعاصم : "حقبا" بسكون القاف، وقرأ الجمهور: "حقبا" بضمه، وهو [ ص: 631 ] تثقيل "حقب"، وجمع الحقب أحقاب. واختلف في الحقب، فقال عبد الله بن عمرو: ثمانون سنة، وقال مجاهد : سبعون سنة، وقال الفراء : "الحقب": سنة واحدة، وقال ابن عباس وقتادة : الحقب أزمان غير محدودة، وقالت فرقة: "الحقب" جمع حقبة وهي السنة.

التالي السابق


الخدمات العلمية