الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون ولما جهزهم بجهازهم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون

قال السدي وغيره: سبب مجيئهم أن المجاعة التي أنذر بها يوسف أصابت البلاد التي كان بها يعقوب ، وروي أنه كان في العربات من أرض فلسطين بغور الشام، وقيل: كان بالأدلاج من ناحية الشعب، وكان صاحب بادية، له إبل وشاء، فأصابهم الجوع، وكان أهل مصر قد استعدوا وادخروا من السنين الخصيبة، فكان الناس [ ص: 111 ] يمتارون من عند يوسف وهو في رتبة العزيز المتقدم، وكان لا يعطي الوارد أكثر من حمل بعير، يسوي بين الناس، فلما ورد إخوته عرفهم يوسف عليه السلام ولم يعرفوه هم لبعد العهد وتغير سنه، ولم يقع لهم -بسبب ملكه ولسانه القبطي- ظن عليه، وروي في بعض القصص أنه لما عرفهم أراد أن يخبروه بجميع أمرهم، فباحثهم بأن قال لهم (بترجمان): أظنكم جواسيس، فاحتاجوا حينئذ إلى التعريف بأنفسهم فقالوا: نحن أبناء رجل صديق، وكنا اثني عشر، ذهب واحد منا في البرية، وبقي أصغرنا عند أبينا، وجئنا نحن للميرة، وسقنا بعير الباقي منا، وكانوا عشرة ولهم أحد عشر بعيرا، فقال لهم يوسف : ولم تخلف أخوكم؟ قالوا: لمحبة أبينا فيه، قال: فأتوني بهذا الأخ حتى أعلم حقيقة قولكم، وأرى: لم أحبه أبوكم أكثر منكم إن كنتم صادقين. وروي في القصص أنهم وردوا مصر، واستأذنوا على العزيز وانتسبوا في الاستئذان، فعرفهم وأمر بإنزالهم، وأدخلهم في ثاني يوم على هيئة عظيمة لملكه وأبهة شائقة، وروي أنه كان متلثما أبدا سترا لجماله، وأنه كان يأخذ الصواع فينقره، ويفهم من طنينه صدق ما يحدث به أو كذبه، فسئلوا عن أخبارهم، فكلما صدقوا قال لهم يوسف : صدقتم، فلما قالوا: وكان لنا أخ أكله الذئب طن يوسف الصواع وقال: كذبتم، ثم تغير لهم، وقال: أراكم جواسيس، وكلفهم سوق الأخ الباقي ليظهر صدقهم. وفي ذلك قصص طويل جاءت الإشارة إليه في القرآن وجيزة.

والجهاز: ما يحتاج إليه المسافر من زاد ومتاع، وكل ما يحمل، وكذلك جهاز العروس وجهاز الميت.

وقول يوسف عليه السلام: ألا ترون أني أوفي الكيل الآية. يرغبهم في نفسه آخرا، ويؤنسهم ويستميلهم. و”المنزلين": يعني المضيفين في قطره ووقته. والجهاز المشار إليه: الطعام الذي كان حمله لهم، ثم توعدهم إن لم يجيئوا بالأخ بأنه لا كيل لهم عنده في المستأنف، وأمرهم ألا يقربوا له بلدا ولا طاعة، و"لا تقربون" نهي لفظا ومعنى، ويجوز أن يكون لفظه الخبر ومعناه النهي، وتحذف إحدى النونين، كما قرئ: فبم تبشرون بكسر النون، وهذا خبر لا غير، وخلط النحاس في هذا الموضع، وقال مالك رحمه الله: هذه الآية -وما يليها- تقتضي أن كيل الطعام على البائع، وكذلك هي الرواية في التولية والشركة أنها بمنزلة البيع، والرواية في القرض: أن الكيل على [ ص: 112 ] المستقرض، وروي أنه حبس منهم شمعون رهينة حتى يجيئوه ببنيامين، قاله السدي ، وروي أنه لم يحبس منهم أحدا، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كان يوسف يلقي حصاة في إناء فضة مخوص بالذهب فيطن، فيقول لهم: إن هذا الإناء يخبرني أن لكم أبا شيخا" .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

كأنها حيلة وإيهام لهم، وروي أن ذلك الإناء به كان يكيل الطعام إظهارا لعزته بحسب غلائه في تلك المدة، وروي أن يوسف عليه السلام استوفى في تلك السنين أموال الناس ثم أملاكهم، فمن هناك ليس لأحد في أرض مصر ومزارعها ملك، وظاهر كل ما فعله يوسف معهم أنه بوحي وأمر، وإلا فكان بر يعقوب يقتضي أن يبادر إليه ويستدعيه، لكن الله تبارك وتعالى أعلمه بما يصنع ليكمل أجر يعقوب ومحنته وتتفسر الرؤيا الأولى.

التالي السابق


الخدمات العلمية