الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          وحدثني عن مالك عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل أنه قال أخبرني عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين عن جدامة بنت وهب الأسدية أنها أخبرتها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لقد هممت أن أنهى عن الغيلة حتى ذكرت أن الروم وفارس يصنعون ذلك فلا يضر أولادهم قال مالك والغيلة أن يمس الرجل امرأته وهي ترضع

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          1292 1280 - ( مالك ، عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل ) بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي الأسدي أبي الأسود يتيم عروة الثقة العلامة ( قال : أخبرني عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين ) رضي الله عنها ( عن جدامة ) بضم الجيم وفتح الدال المهملة على الصحيح عن مالك كما قال مسلم ، وهو قول الجمهور حتى قال الدارقطني : من قالها بالمعجمة فقد صحف ، وقال الباجي بالمهملة رواية يحيى ، وقال أبو ذر عنه : سماعي منه موطأ أبي مصعب بالمعجمة ، قال المازري : وهي لغة ما لم يندق من السنبل في قول أبي حاتم ، وقال غيره : إذا تحات البر فما بقي في الغربال من قصبة فهو جدامة ( بنت وهب ) بن محصن ، ويقال : بنت جندل ، ويقال : بنت جندب ( الأسدية ) لها سابقة وهجرة ، زاد في رواية لمسلم : أخت عكاشة ، أي : أخته لأمه على المختار ، خلافا لمن قال : لعله أخي عكاشة ، فتكون بنت أخيه ( أنها ) أي جدامة ( أخبرتها ) أي عائشة ، قال ابن عبد البر : كل الرواة رووه ، هكذا إلا أبا عامر العقدي فجعله عن عائشة لم يذكر جدامة ، وكذا رواه القعنبي في غير الموطأ ، ورواه فيه كسائر الرواة عن عائشة عن جدامة ، ففي روايتها عنها حرص عائشة على العلم وبحثها عنه [ ص: 376 ] ( أنها سمعت رسول الله ) وفي رواية مسلم : " حضرت رسول الله في أناس " ( - صلى الله عليه وسلم - يقول : لقد هممت ) أي قصدت ( أن أنهى عن الغيلة ) بكسر الغين المعجمة وبالهاء اسم من الغيل بفتحها والغيال بكسرها ، والغيلة بالفتح والهاء المرة الواحدة ، وقيل لا تفتح الغين إلا مع حذف الهاء ، وذكر ابن السراج الوجهين في غيلة الرضاع ، أما غيلة القتل فبالكسر لا غير ، وفي رواية لمسلم عن الغيال وهو صحيح أيضا ، قاله عياض ( حتى ذكرت أن الروم ) بضم الراء نسبة إلى روم بن عيصو بن إسحاق ( وفارس ) لقب قبيلة ليس بأب ولا أم ، وإنما هم أخلاط من تغلب اصطلحوا على هذا الاسم ( يصنعون ذلك فلا يضر أولادهم ) وفي رواية لمسلم : فنظرت في الروم وفارس ، فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضر أولادهم ذلك شيئا ، يعني لو كان الجماع حال الرضاع أو الإرضاع حال الحمل مضرا لضر أولاد الروم وفارس ; لأنهم يصنعون ذلك مع كثرة الأطباء فيهم ، فلو كان مضرا لمنعوهم منه ، فحينئذ لا أنهى عنه . قال عياض : ففيه جوازه إذ لم ينه عنه لأنه رأي الجمهور وإن أضر بالقليل ؛ لأن الماء يكثر اللبن وقد يغيره ، والأطباء يقولون في ذلك اللبن إنه داء والعرب تتقيه ، ولأنه قد يكون عنه حمل ولا يعرف فيرجع إلى إرضاع الحامل المتفق على مضرته ، وأخذ الجواز أيضا من حديث سعد بن أبي وقاص عند مسلم : " أن رجلا قال : إني أعزل عن امرأتي ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لم تفعل ذلك ؟ فقال : أشفق على ولدها أو على أولادها ، فقال : لو كان ذلك ضارا ضر فارس والروم " وقال الباجي : لعل الغيلة إنما تضر في النادر فلذا لم ينه عنها رفقا بالناس للمشقة على من له زوجة واحدة . قال عياض : وفيه أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يجتهد في الأحكام ، واختلف الأصوليون فيه ، قال الأبي : ووجه الاجتهاد أنه لما علم برأي أو استفاضة أنه لا يضر فارس والروم ، قاس العرب عليهم للاشتراك في الحقيقة ، ورواه مسلم عن يحيى وخلف بن هشام كلاهما عن مالك به ، وتابعه سعيد بن أبي أيوب ويحيى بن أيوب كلاهما عن محمد بن عبد الرحمن نحوه عند مسلم أيضا ، وأخرجه أحمد والأربعة من طريق مالك وغيره ، ولم يخرجه البخاري ولا خرج عن جدامة . ( قال مالك : الغيلة أن يمس الرجل امرأته وهي ترضع ) أنزل أو لا لأنه إن لم ينزل فقد تنزل المرأة فيضر اللبن ، وقيل إن لم ينزل فليس بغيلة . قال ابن عبد البر : تفسير مالك هو قول أكثر أهل اللغة وغيرهم ، وقال الأخفش : هي إرضاع المرأة ولدها وهي حامل ؛ لأنها إذا حملت فسد اللبن فيفسد جسم الصبي ويضعف حتى ربما كان ذلك في عقله . وفي حديث مرفوع : " إن الغيلة [ ص: 377 ] لتدرك الفارس فتعثره عن فرسه أو قال عن سرجه " أي يضعف فيسقط عنه . وقال الشاعر :

                                                                                                          فوارس لم يغالوا في رضاع فتنبو في أكفهم السيوف

                                                                                                          ولو كان ما قاله الأخفش حقا لنهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - إرشادا ; لأنه رؤوف بالمؤمنين اهـ . وفي الأبي : احتج من قال إنها وطء المرضع ، بأن إرضاع الحامل مضر ودليله العيان ، فلا يصح حمل الحديث عليه لأن الغيلة التي فيه لا تضر وهذه تضر . وقال ابن القيم : والخبر - يعني حديث الباب - لا ينافيه خبر : " لا تغيلوا أولادكم سرا " فإن هذا كالمشورة عليهم والإرشاد لهم إلى ترك ما يضعف الولد ويغيله ، فإن المرأة المرضع إذا باشرها الرجل حرك منها دم الطمث وأهاجه للخروج ، فلا يبقى اللبن على اعتداله وطيبه ، وربما حملت الموطوءة فيكون من أضر الأمور على الرضيع لأن جهة الدم حينئذ تنصرف في تغذية فيصير لبنها رديئا فيضعف الرضيع ، فهذا وجه الإرشاد لهم إلى تركه ، ولم يحرمه عليهم ولا نهى عنه لأنه لا يقع دائما لكل مولود .




                                                                                                          الخدمات العلمية