الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
واذا كانت الدور بين قوم فأراد أحدهم أن يجمع نصيبه منها في دار واحدة وأبي ذلك بعضهم قسم القاضي كل دار بينهم على حدة ولم يضم بعض أنصبائهم إلى بعض إلا أن يصطلحوا على ذلك في قول أبي حنيفة رحمه الله ، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله الرأي في ذلك إلى القاضي وينبغي أن ينظر في ذلك فإن كانت أنصباء أحدهم إذا جمعت في دار كان أعدل للقسمة جمع ذلك ; لأن المعتبر في القسمة المعادلة في المنفعة والمالية والمقصود دفع الضرر وإذا قسم كل دار على حدة ربما يتضرر كل واحد منهم لتفرق نصيبه وإذا قسم الكل قسمة واحدة يجتمع نصيب كل واحد منهم في دار وينتفع بذلك والقاضي نصب ناظرا فيمضي قضاؤه على وجه يرى النظر فيه كما يمضي قضاؤه في المجتهدات على ما يؤدي إليه اجتهاده ولأن الدور في حكم جنس واحد لاتحاد المقصود بها وهو السكنى والجنس الواحد يقسم بين الشركاء قسمة واحدة كالغنم والثياب الهروية إلا أنها تتفاوت منفعة السكنى باختلاف البلدان وباختلاف المحال فمن هذا الوجه نسبة البلدان والأجناس المختلفة فعند تعارض الأدلة الرأي للقاضي فيرجح بعضها بطريق النظر وأبو حنيفة رحمه الله يقول : الدور أجناس مختلفة بدليل أنها لا تثبت صداقا بمطلق التسمية حتى إذا تزوج امرأة على دار فهو [ ص: 18 ] بمنزلة ما لو تزوجها على ثوب

( وكذلك ) لو وكل وكيلا بشراء دار لم يصح التوكيل وبعد إعلام الجنس جهالة الوصف لا تمنع صحة الوكالة فعرفنا أنها أجناس مختلفة والأجناس المختلفة لا تقسم قسمة واحدة إلا باصطلاح الشركاء على ذلك ; وهذا لأن في الأجناس المختلفة معنى المعاوضة يغلب على معنى التمييز والمعاوضة تعتمد التراضي وفي الجنس الواحد معنى التمييز يغلب ، وذلك داخل تحت ولاية القاضي ففي الدور معنى المعاوضة يغلب ; لأن قبل القسمة يتيقن بأن نصيب كل واحد منهم في أمكنة متفرقة فإذا جمعها في مكان واحد يكون ذلك بطريق المعاوضة وإذا قسم كل ذراع على حدة فمعنى التمييز فيه يغلب ; لأن نصيب كل واحد منهم يكون في أمكنة متفرقة بعد القسمة كما كان قبلها ، ثم المقصود بالقسمة تمكين كل واحد منهم من الانتفاع بملكه فلا بد من اعتبار المعادلة في المنفعة والتفاوت في المنفعة في الدور تفاوت عظيم فإنما يختلف باختلاف البلدان وباختلاف المحال وباختلاف الجيران وبالقرب من الماء وبالبعد عنه وبالقرب من الربط والبعد عنه والظاهر أنه يتعذر عليه اعتبار المعادلة في المنفعة إذا قسمها قسمة واحدة وأن قسمة كل دار على حدة أعدل ، ثم هي ثلاثة فصول عنده الدور والبيوت والمنازل فالدور سواء كانت متفرقة أو متلازقة لا يقسم عنده قسمة واحدة إلا برضاء الشركاء والبيوت تقسم قسمة واحدة سواء كانت متفرقة أو مجتمعة في مكان واحد ; لأنها تتفاوت في منفعة السكنى فالبيت اسم لمسقف واحد له دهليز فلا يتفاوت في المنفعة عادة .

( ألا ترى ) أنها تؤجر بأجر واحد في كل محلة فتقسم قسمة واحدة

والمنازل إن كانت مجتمعة في دار واحدة متلازقة بعضها ببعض تقسم قسمة واحدة ، وإن كانت متفرقة تقسم كل منزلة على حدة سواء كانت في محال أو في دار واحدة بعضها في أقصاها وبعضها في أدناها ; لأن المنزل فوق البيت ودون الدار فالمنازل تتفاوت في منفعة معنى السكنى ولكن التفاوت فيها دون التفاوت في الدور فهي تشبه البيوت من وجه والدور من وجه فلشبهها بالبيوت قلنا : إذا كانت متلازقة تقسم قسمة واحدة ; لأن التفاوت فيها يقل في مكان واحد ولشبهها بالدور قلنا : إذا كانت في أمكنة متفرقة لا تقسم قسمة وهما في الفصول كلها يقولان ينظر القاضي إلى أعدل الوجوه فتمضي القسمة على ذلك ولو اختلفوا في قيمة البناء فقال بعضهم يجعل البناء بذرع من الأرض ، وقال بعضهم يجعلها على الدراهم والصحيح أن القاضي يجعلها على الذرع إذا تيسر عليه ذلك ; لأن الدراهم ليست من الميراث والثابت لقاضي ولاية قسمة الميراث بينهم فإذا جعل على ذلك الذرع كان ذلك تصرفا في [ ص: 19 ] محل ولايته وإذا جعل ذلك على الدراهم كان ذلك تصرفا منه وراء محل ولايته وربما لا يقدر كل أحد على تحصيل الدراهم وأدائها فليس للقاضي أن يكلفه ذلك توضيحه أنه إذا جعل ذلك على الدراهم فالذي وقع البناء في نصيبه الدرهم دين عليه وربما ينوي ذلك عليه ، وإن كان يخرج فنفس القسمة يتعجل نصيب من وقع البناء في نصيبه ويتأخر نصيب الآخر إلى خروج الدين منه فتنعدم المعادلة بذلك وإذا جعل ذلك على الذرع يتعجل وصول نصيب كل واحد منهم إليه ويتم القسمة ولا حق لبعضهم على بعض فهذا أولى الوجهين وإذا تعذر عليه اعتبار المعادلة على الذرع فله أن يقسم على الدراهم عندنا

( وقال ) مالك رحمه الله ليس له ذلك إلا أن يصطلحوا عليه أو تكون الدراهم يسيرة ; لأن في القسمة على الدراهم محض المعاوضة وهو بيع نصيب أحدهما من البناء بما يوجب له من الدراهم على صاحبه وليس للقاضي ولاية المعاوضة إلا عند تراضي الخصمين عليه إلا أن اليسير من الدراهم ربما يتحقق فيه الحاجة والضرورة فيتعدى إليه حكم ولايته للحاجة وأصحابنا رحمهم الله يقولون هذه الحاجة تتحقق في الكثير كما تتحقق في القليل ; لأن قيمة نصيب أحدهما من البناء ربما يكون أضعاف جميع قيمة الأرض فتتعذر عليه القسمة بطريق مقابلة قيمة البناء بالذرع من الأرض أو يقع جميع الساحة لأحدهما فلا يتمكن صاحب البيت من الانتفاع بالبناء بدون الأرض وإذا كلف نقل البناء تنقطع المنفعة عنه ; فلهذا قلنا عند الضرورة يجوز له أن يجعل القسمة في البناء على الدراهم وهذا لأن ولاية القسمة تثبت له فلا يتعدى فيتعدى ولايته إلى ما لا يتأتى له القسمة إلا به كالجد مع موصى الأب يصح منه تسمية الصداق في النكاح ، وإن كان التصرف في المال إلى الوصي دون الجد ، وكذلك الأخ ليس له ولاية التصرف في المال ، ثم له ولاية التسمية في الصداق باعتبار ثبوت الولاية في التزويج .

التالي السابق


الخدمات العلمية