الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ولو استأجر من رجل نصف أرض غير مقصود أو نصف عبد أو نصف دابة فالعقد فاسد عند أبي حنيفة رحمه الله [ ص: 145 ] والشيوع فيما يحتمل القسمة وما لا يحتمل القسمة سواء عنده في إفساد الإجارة وعند أبي يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله جائز ويتهايآن فيه ، وحجتهم في ذلك أن هذا معاوضة مال بمال فتلزم في المشاع كالبيع وهذا ; لأن موجب الإجارة ملك المنفعة وللجزء الشائع منفعة .

( ألا ترى ) أنه لو أجر من شريكه يجوز العقد لهذا المعنى ولو أجر من رجلين تجوز العقود وكل واحد من المستأجرين يملك منفعة النصف شائعا والدليل عليه أنه لو أعار نصف داره من إنسان جاز ذلك وتأثير الشيوع في المنع من عقد التبرع أكثر منه في المنع من المعاوضة كما في الهبة مع البيع فإذا جاز تمليك منفعة نصف الدار بطريق التبرع فبطريق المعاوضة أولى وأبو حنيفة رحمه الله يقول : التزم بعقد المعاوضة تسليم ما لا يقدر على تسليمه فلا يجوز كما لو باع الآبق أو أجره وبيان ذلك أن عقد الإجارة يرد على المنفعة وتسليم المنفعة يكون باستيفاء المستأجر ولا يتحقق استيفاء المنفعة من النصف شائعا إنما يتحقق من جزء معين ; فإنهما إن تهايآ على المكان فإنما يسكن كل واحد منهما ناحية بعينها ، وإن تهايآ على الزمان فإنما يسكن كل واحد منهما جميع الدار في بعض المدة فعرفنا أن استيفاء المنفعة في الجزء الشائع لا يتحقق فكان بإضافة العقد إلى جزء شائع ملتزما تسليم ما لا يقدر على تسليمه ويحكى عن أبي طاهر الدباس رحمه الله أنه كان يقول إذا أجر أحد الشريكين نصيبه من أجنبي يصح عند أبي حنيفة رحمه الله وإذا أجر المالك نصف أرضه لا يصح وكان يفرق فيقول : يحتاجان إلى المهايأة ، فإما أن يعود إلى يد الأجير جميع المستأجر في بعض المدة إذا تهايآ على الزمان أو بعض المستأجر في جميع المدة إذا تهايآ على المكان وعود المستأجر إلى يد الأجير يمنع استيفاء المنفعة بحكم الإجارة كما لو أعاره المستأجر من الأجير أو أجره منه فاستحقاق ذلك بسبب يقترن بالعقد يبطل الإجارة

فأما إذا أجر أحدهما نصيبه من أجنبي فالمهايأة تكون بين المستأجر والشريك فلا يعود المستأجر إلى يد الأجير وإنما يعود إلى يد أجنبي وذلك جائز في الإجارة كما لو أعاره المستأجر أو أجره من أجنبي والأصح أنه لا فرق بينهما عنده والعقد فاسد ; لما بينا ولأن استيفاء المعقود عليه لا يتأدى إلا بالمهايأة والمهايأة عقد آخر ليس من حقوق عقد الإجارة فبدونه لا تثبت القدرة على قبض المعقود عليه وذلك مانع من جواز العقد ، فإن استوفى المنفعة مع الفساد استوجب أجر المثل ; لأنه استوفى المعقود عليه بحكم عقد فاسد وهذا ; لأن العجز عن التسليم يفسد العقد ولا يمنع انعقاده كما في بيع الآبق فإذا استوفى فقد تحقق الاستيفاء بعد انعقاد . [ ص: 146 ] العقد وهذا بخلاف البيع ; لأن التسليم هناك بالتخلية يتم ، وذلك في الجزء الشائع يتم ، فأما إذا أجره من شريكه فقد روي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يجوز ذلك وجعله كالرهن في هذه الرواية ; لأن استيفاء المنفعة التي يتناولها العقد لا يتأتى إلا بغيرها وهو منفعة نصيبه ، وذلك مفسد لعقد الإجارة كمن استأجر أحد زوجي المقراض لمنفعة قرض الثياب لا يجوز ; لأن استيفاء المعقود عليه مما يتناوله العقد لا يمكن إلا بما لم يتناوله العقد

وفي ظاهر الرواية يجوز ; لأن استيفاء المعقود عليه على الوجه الذي استحقه بالعقد يتأتى هنا ; فإنه يسكن جميع الدار فيصير مستوفيا منفعة نصيبه بملكه ومنفعة المستأجر بحكم الإجارة بخلاف ما إذا أجره من غير شريكه فهناك يتعذر الاستيفاء على الوجه الذي أوجبه العقد وهو نظير بيع الآبق ممن هو في يده يجوز بكون التسليم مقدورا عليه بيده ومن غير من في يده لا يجوز لعجزه عن التسليم وهذا بخلاف الرهن فبالشيوع هناك ينعدم المعقود عليه ; لأن المعقود عليه هو الحبس المستدام ولا تصور لذلك في الشائع وفي هذا الشريك والأجنبي سواء ، فأما هنا بالشيوع لا ينعدم المعقود عليه وهو المنفعة إنما ينعدم التسليم ، وذلك لا يوجد في حق الشريك وبه فارق الهبة أيضا فالشيوع فيما يحتمل القسمة يمنع تمام القبض الذي به يقع الملك ، والهبة من الشريك ومن غيره في ذلك سواء

وأما إذا أجر من رجلين فتسليم المعقود عليه كما أوجبه العقد مقدور عليه للمؤاجر ، ثم المهايأة بعد ذلك تكون بين المستأجرين بحكم ملكيهما وهو نظير الراهن من رجلين فهو جائز لوجود المعقود عليه باعتبار ما أوجبه الراهن لهما فإن مات أحد المستأجرين حتى بطل العقد في نصيبه فقد ذكر الطحطاوي عن خالد بن صبيح عن أبي حنيفة رحمهم الله أنه يفسد العقد في النصف الآخر ; لأن الإجارة يتجدد انعقادها بحسب ما يحدث من المنفعة فكان هذا في معنى شيوع يقترن بالعقد ، وفي ظاهر الرواية يبقى العقد في حق الآخر ; لأن تجدد الانعقاد في حق المعقود عليه ، فأما أصل العقد فمنعقد لازم في الحال وباعتبار هذا المعنى الشيوع طارئ والطارئ من الشيوع ليس نظير المقارن كما في الهبة إذا وهب له جميع الدار وسلمها ، ثم رجع في نصفها وهذا بخلاف الإعارة ; لأنه لا يتحقق بها استحقاق التسليم والمؤثر العجز عن التسليم فإنما يؤثر في العقد الذي يتعلق به استحقاق التسليم .

التالي السابق


الخدمات العلمية