الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  2302 6 - حدثنا يحيى بن موسى ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : حدثنا الأوزاعي ، قال : حدثني يحيى بن أبي كثير ، قال : حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن ، قال : حدثني أبو هريرة رضي الله عنه قال : لما فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة قام في الناس ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين ، فإنها لا تحل لأحد كان قبلي ، وإنها أحلت لي ساعة من نهار ، وإنها لا تحل لأحد بعدي فلا ينفر صيدها ولا يختلى شوكها ، ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد ، ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين ، إما أن يفدى ، وإما أن يقيد . فقال العباس : إلا الإذخر ، فإنا نجعله لقبورنا وبيوتنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إلا الإذخر ، فقام أبو شاه رجل من أهل اليمن فقال : اكتبوا لي يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اكتبوا لأبي شاه قلت للأوزاعي : ما قوله : اكتبوا لي يا رسول الله ، قال : هذه الخطبة التي سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله : ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد .

                                                                                                                                                                                  (ذكر رجاله) وهم ستة; الأول : يحيى بن موسى بن عبد ربه أبو زكرياء السختياني البلخي يقال له خت . الثاني : الوليد بن مسلم بلفظ الفاعل من الإسلام . [ ص: 276 ] الثالث : عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي . الرابع : يحيى بن أبي كثير ، واسم أبي كثير صالح . الخامس : أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف . السادس : أبو هريرة .

                                                                                                                                                                                  (ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع ، وبصيغة الإفراد في ثلاثة مواضع ، وهذا من الغرائب أن كل واحد من الرواة صرح بالتحديث ، وفيه القول في ثلاثة مواضع ، وفيه أن شيخه من أفراده ، وفيه أن الوليد والأوزاعي شاميان ، ويحيى يمامي وأبو سلمة مدني ، وفيه رواية التابعي عن التابعي عن الصحابي ، وفيه ثلاثة من المدلسين على نسق واحد .

                                                                                                                                                                                  (ذكر من أخرجه غيره) أخرجه مسلم في الحج عن زهير بن حرب ، وعبيد الله بن سعيد ، كلاهما عن الوليد بن مسلم به ، وأخرجه أبو داود فيه عن أحمد بن حنبل ، عن الوليد بن مسلم به إلا أنه لم يذكر قصة أبي شاه ، وفي العلم عن مؤمل بن الفضل ، عن الوليد بن مسلم به مختصرا ، وعن علي بن سهل الرملي ، عن الوليد بن مسلم ، وفي الديات عن العباس بن الوليد بن يزيد ، عن أبيه ، عن الأوزاعي ببعضه ، وأخرجه الترمذي في الديات عن محمود بن غيلان ، ويحيى بن موسى كلاهما عن الوليد بن مسلم ببعضه ، وفي العلم بهذا الإسناد ، وأخرجه النسائي في العلم عن العباس بن الوليد بن يزيد ، عن أبيه ، وعن محمد بن عبد الرحمن ، وعن أحمد بن إبراهيم ، وأخرجه ابن ماجه في الديات عن عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم عن الوليد بن مسلم ببعضه من قتل له قتيل إلى ، قوله : يفدى .

                                                                                                                                                                                  (ذكر معناه) قوله : " لما فتح الله على رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم مكة قام في الناس " ظاهره أن الخطبة وقعت عقيب الفتح وليس كذلك ، بل وقعت بعد الفتح عقيب قتل رجل من خزاعة رجلا من بني ليث ، والدليل على ذلك أن البخاري أخرج هذا الحديث عن أبي هريرة من وجه آخر في العلم ، في باب كتابة العلم عن أبي نعيم ، عن شيبان ، عن يحيى ، عن سلمة ، عن أبي هريرة أن خزاعة قتلوا رجلا من بني ليث عام فتح مكة بقتيل منهم قتلوه ، فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فركب راحلته فخطب فقال : إن الله قد حبس عن مكة الفيل أو القتل . . . الحديث ، قوله : " القتل " في رواية الأكثرين بالقاف وبالتاء المثناة من فوق ، وفي رواية الكشميهني بالفاء وبالياء آخر الحروف ، والمراد به الفيل الذي أخبر الله في كتابه في سورة ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل قوله : " لا تحل لأحد كان قبلي " كلمة " لا " بمعنى " لم " أي لم تحل ، قوله : " ولا ينفر " على صيغة المجهول من التنفير ، يقال : نفر ينفر نفورا ونفارا إذا فر وذهب ، قوله : " ولا تحل " على بناء المعلوم ، والساقطة هي اللقطة ، قوله : " إلا لمنشد " أي لمعرف ، يعني لا تحل لقطتها إلا لمن يريد أن يعرفها فقط ، لا لمن أراد أن يتملكها ، قوله : " من قتل له قتيل " قد مر أنه صلى الله عليه وسلم إنما قال هذا لما أخبر أن خزاعة قتلوا رجلا من بني ليث عام فتح مكة بقتيل منهم أي بسبب قتيل منهم ، قوله : " فهو بخير النظرين " أي بخير الأمرين يعني القصاص والدية ، فأيهما اختار كان له ، إما أن يفدى على صيغة المجهول أي يعطى له الفدية أي الدية ، وفي رواية للبخاري وغيره : إما أن يودى له ، من وديت القتيل أديه دية إذا أعطيت ديته ، وإما أن يقيد أي يقتص من القود ، وهو القصاص ، وفي رواية : وإما أن يقاد له ، قوله : " فقام أبو شاه " بالهاء لا غير قال النووي : وقد جاء في بعض الروايات بالتاء وكذا عن ابن دحية ، وفي المطالع : وأبو شاه مصروفا ، ضبطه بعضهم ، وقرأته أنا معرفة ونكرة ، قلت : معنى قوله مصروفا أنه بالتنوين ، ومعنى شاه بالفارسية ملك ، ويجمع على شاهان ، وقد ورد النهي عن القول بشاهان شاه يعني ملك الملوك ، ويقدم المضاف إليه على المضاف في اللغة الفارسية .

                                                                                                                                                                                  (ذكر ما يستفاد منه) وهذا الحديث مشتمل على أحكام : منها أحكام تتعلق بحرم مكة ، وقد مر أبحاثه في كتاب الحج . ومنها ما يتعلق باللقطة ، وقد مر أبحاثها في كتاب اللقطة . ومنها ما يتعلق بكتاب أبي شاه وقد مر في كتاب العلم . ومنها ما يتعلق بالقصاص والدية ، وهو قوله : ومن قتل له قتيل ، وقد اختلفوا فيه ، وهو أن من قتل له قتيل عمدا فوليه بالخيار بين أن يعفو ويأخذ الدية ، أو يقتص رضي بذلك القاتل أو لم يرض ، وهو مذهب سعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين ومجاهد والشعبي والأوزاعي ، وإليه ذهب الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور ، وقال ابن حزم : صح هذا عن ابن عباس ، وروي عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم .

                                                                                                                                                                                  [ ص: 277 ] واحتجوا في ذلك بالحديث المذكور ، وقال إبراهيم النخعي ، وعبد الله بن ذكوان ، وسفيان الثوري ، وعبد الله بن شبرمة ، والحسن بن حيي ، وأبو حنيفة ، وأبو يوسف ومحمد رحمهم الله ، ليس لولي المقتول أن يأخذ الدية إلا برضى القاتل ، وليس له إلا القود أو العفو ، واحتج هؤلاء بما رواه البخاري عن أنس أن الربيع بنت النضر عمته لطمت جارية ، فكسرت سنها فعرضوا عليهم الأرش ، فأبوا فطلبوا العفو ، فأبوا فأتوا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأمرهم بالقصاص فجاء أخوها أنس بن النضر فقال : يا رسول الله ، أتكسر سن الربيع ، والذي بعثك بالحق لا تكسر سنها ، فقال : يا أنس كتاب الله القصاص ، فعفا القوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن من عباد الله لو أقسم على الله لأبره " فثبت بهذا الحديث أن الذي يجب بكتاب الله وسنة رسول الله في العمد هو القصاص ، لأنه لو كان للمجني عليه الخيار بين القصاص وبين أخذ الدية إذا لخيره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولما حكم لها بالقصاص بعينه ، فإذا كان كذلك وجب أن يحمل ، قوله : فهو بخير النظرين ، إما أن يفدى ، وإما أن يقيد على أخذ الدية برضى القاتل حتى تتفق معاني الآثار ، ويؤيده ما رواه البخاري أيضا عن ابن عباس قال : كان في بني إسرائيل القصاص ، ولم يكن فيهم الدية ، فقال الله لهذه الأمة : كتب عليكم القصاص في القتلى الآية ، وقوله : فمن عفي له من أخيه شيء فالعفو أن يقبل الدية في العمد ، قوله : ذلك تخفيف من ربكم يعني مما كتب على من كان قبلكم ، أو نقول التخيير من الشرع تجويز الفعلين وبيان المشروعية فيهما ، ونفي الحرج عنهما كقوله صلى الله عليه وسلم في الربويات : " إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم " معناه تجويز البيع مفاضلة ومماثلة ، بمعنى نفي الحرج عنهما ، وليس فيه أن يستقل به دون رضى المشتري ، فكذا هنا جواز القصاص ، وجواز أخذ الدية ، وليس فيه استقلال يستغنى به عن رضى القاتل (فإن قلت) قد أخبر الله تعالى في الآية المذكورة أن للولي العفو واتباع القاتل بإحسان ، فيأخذ الدية من القاتل ، وإن لم يكن اشترط ذلك في عفوه (قلت) : العفو في اللغة البذل خذ العفو أي ما سهل ، فإذا المعنى فمن بذل له شيء من الدية فليقبل ، والإبذال لا يجب إلا برضى من يجب له ورضى من يجب عليه .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية