الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          2285 - مسألة : مقدار ما يجب فيه قطع السارق ؟ قال أبو محمد رحمه الله : اختلف الناس في مقدار ما يجب فيه قطع يد السارق فقالت طائفة : يقطع في كل ما له قيمة ، قل أو كثر .

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة : أما من الذهب فلا تقطع اليد فيه إلا في ربع دينار فصاعدا ، وأما من غير الذهب ففي كل ما له قيمة ، قلت أو كثرت .

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة : لا تقطع اليد إلا في درهم أو ما يساوي درهما فصاعدا . [ ص: 345 ]

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة : لا تقطع اليد إلا في درهمين - أو ما يساوي درهمين - فصاعدا .

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة : أما من الذهب فلا تقطع اليد إلا في ربع دينار فصاعدا ، وأما من غير الذهب فلا تقطع اليد إلا فيما قيمته ثلاثة دراهم ، فإن ساوى ربع دينار أو نصف دينار فأكثر ، ولم يساو - لرخص الذهب - ثلاثة دراهم ، فلا تقطع اليد فيه وإن ساوى ثلاثة دراهم ، ولم يساو عشر دينار لغلاء الذهب فلا قطع فيه .

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة : أما من الذهب فلا تقطع اليد في أقل من ربع دينار ، وأما من غير الذهب ، فكل ما يساوي ربع دينار فصاعدا ، ففيه القطع ، فإن ساوى عشرة دراهم - أو أكثر أو أقل - ولا يساوي ربع دينار لغلاء الذهب ، أو ساوى ربع دينار ولم يساو نصف درهم - لرخص الذهب - فالقطع في كل ذلك .

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة : أما من الذهب فلا قطع في أقل من ربع دينار ، وتقطع في ربع دينار فأكثر ، وأما من غير الذهب ، فإن ساوى ربع دينار ولم يساو ثلاثة دراهم ، أو ساوى ثلاثة دراهم ولم يساو ربع دينار ، قطع في كل ذلك ، وإن لم يساو ربع دينار ولا ثلاثة دراهم ، فلا قطع فيه .

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة : لا تقطع اليد إلا في أربعة دراهم أو ما يساويها فصاعدا .

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة : لا تقطع اليد إلا في ثلث دينار أو ما يساويه فصاعدا .

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة : لا تقطع اليد إلا في خمسة دراهم أو يساويها فصاعدا .

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة : لا تقطع اليد إلا في دينار ذهب أو ما يساويه فصاعدا .

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة : لا تقطع اليد إلا في دينار ذهب ، أو عشرة دراهم ، أو ما يساوي أحد العددين فصاعدا ، فإن لم يساو لا دينارا ولا عشرة دراهم ، لم تقطع .

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة : لا تقطع اليد إلا في عشرة دراهم مضروبة ، أو ما يساويها فصاعدا ، ولا تقطع في أقل ؟ قال أبو محمد رحمه الله : فنظرنا في ذلك ، فوجدنا - ما رويناه من طريق البخاري نا عمر بن حفص بن غياث نا أبي نا الأعمش قال : سمعت أبا صالح السمان عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق [ ص: 346 ] الحبل فتقطع يده } فكان هذا أيضا نصا بينا جليا على أنه لا حد فيما يجب القطع فيه في السرقة ، إلا أن يأتي نص آخر مبين لذلك : فوجدنا - ما ، ناه عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أنا الربيع بن سليمان نا أشعث نا الليث بن سعد عن محمد بن عجلان عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم وهو مؤمن } .

                                                                                                                                                                                          فعم رسول الله صلى الله عليه وسلم كل سرقة ، ولم يخص عددا من عدد ، ولو أنه عليه السلام أراد مقدارا من مقدار لبينه ، كما بين ذلك في النهبة في الحديث المذكور ، فخص ذات الشرف التي يرفع الناس إليه فيها أبصارهم ، ولم يخص في الزنى ، ولا في السرقة ، ولا في الخمر .

                                                                                                                                                                                          فكانت هذه النصوص المتواترة ، المتظاهرة ، المترادفة ، موافقة لنص القرآن الذي به عرفنا الله تعالى مراده منا .

                                                                                                                                                                                          فنظرنا ، هل نجد في السنة تخصيصا لشيء من هذه النصوص ؟ فوجدنا الخبر الذي ذكرناه من طريق عروة ، وعمرة ، والزهري ، وأبي بكر بن حزم - كما نا عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا الوليد بن شجاع أرني ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب عن عروة ، وعمرة عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا } .

                                                                                                                                                                                          وبه - إلى مسلم نا بشر بن الحكم العبدي نا عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن يزيد بن عبد الله بن الهادي عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عمرة عن [ ص: 347 ] عائشة أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول { لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا } ؟ .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد رحمه الله : فخرج الذهب بهذا الخبر عن جملة الآية ، وعن عموم النصوص التي ذكرنا قبل ، ووجب الأخذ بكل ذلك ، وأن يستثنى الذهب عن سائر الأشياء ، فلا تقطع اليد إلا في ربع دينار بوزن مكة فصاعدا ، ولا تقطع في أقل من ذلك من الذهب خاصة .

                                                                                                                                                                                          ثم نظرنا - هل نجد نصا آخر فيما عدا الذهب ؟ إذ ليس في هذا الخبر ذكر قيمة ولا ثمن أصلا ، ولا دليل على ذلك ، ولا فيه ذكر حكم شيء غير عين الذهب ، فإذا يونس بن عبد الله قد حدثنا : قال : نا عيسى بن أبي عيسى - هو يحيى بن عبد الله بن يحيى - قال : نا أحمد بن خالد نا محمد بن وضاح نا أبو بكر بن أبي شيبة نا عبد الرحيم بن سليمان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن { يد السارق لم تكن تقطع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في أدنى من ثمن حجفة أو ترس ، كل واحد منهما يومئذ ذو ثمن ، وأن يد السارق لم تكن تقطع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشيء التافه } فكان هذا حديثا صحيحا تقوم به الحجة ، وهو مسند ; لأنها ذكرت عما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقطع يد السارق إلا فيه ، ولأنه لا يشك أحد - لا مؤمن ولا كافر - في أنه لم يكن في المدينة - حيث كانت عائشة ، وحيث شهدت الأمر - أحد يقطع الأيدي في السرقات ، ولا يحتج بفعل أحد في الإسلام إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده . فصح بهذا الخبر أحكام ثلاثة :

                                                                                                                                                                                          أحدها - أن القطع إنما يجب في سرقة ما سوى الذهب - فيما يساوي ثمن حجفة أو ترس - قل ذلك أو كثر دون تحديد .

                                                                                                                                                                                          والثاني - أن ما دون ذلك مما لا قيمة له أصلا - وهو التافه - لا يقطع فيه أصلا .

                                                                                                                                                                                          والثالث - بيان كذب من ادعى أن ثمن المجن الذي فيه القطع ، إنما هو مجن واحد بعينه معروف ، وهو الذي سرق ، فقطع فيه النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ; لأن عائشة أخبرت بأن المراعى في ذلك ثمن حجفة أو ترس ، وكلاهما ذو [ ص: 348 ] ثمن ، فلم يخص الترس دون الحجفة ، ولا الحجفة دون الترس ، وأخبرت أن كليهما ذو ثمن دون تحديد الثمن .

                                                                                                                                                                                          فصح ما قلناه يقينا .

                                                                                                                                                                                          وأما قولنا في الدينار إنه بوزن مكة ، فلما صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مما نا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أنا أحمد بن سليمان الزهراني نا أبو نعيم - هو الفضل بن دكين - نا سفيان - هو الثوري - عن حنظلة بن أبي سفيان الجمحي عن طاوس عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { المكيال مكيال أهل المدينة ، والوزن وزن أهل مكة } . فالمثقال المكي : اثنان وثمانون حبة من حب الشعير المجمل - لا تنتخب كبيرة ولا تتحر صغيرة - فربع دينار : وزنه عشرون حبة ونصف حبة - لا قطع في أقل من ذلك من الذهب المحض الصرف ، الذي لا ينضاف إليه خلط يظهر له فيه أثر - قل أو كثر - من ورق ، أو نحاس ، أو غير ذلك - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية