الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      فائدة

                                                                                                                                                                                                                                      وقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله أحل له ولأمته ميتتين ودمين ، أما الميتتان : فالسمك والجراد ، وأما الدمان : فالكبد والطحال ، وسيأتي الكلام على هذا الحديث في الأنعام إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      وعنه صلى الله عليه وسلم في البحر " هو الحل ميتته " أخرجه مالك وأصحاب " السنن " والإمام أحمد ، والبيهقي والدارقطني في سننهما ، والحاكم في " المستدرك " ، وابن الجارود في " المنتقى " ، وابن أبي شيبة ، وصححه الترمذي ، وابن خزيمة ، وابن حبان ، والبخاري .

                                                                                                                                                                                                                                      وظاهر عموم هذا الحديث وعموم قوله تعالى : ( وطعامه ) يدل على إباحة ميتة البحر مطلقا ، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه أنه أكل من العنبر ، وهو حوت ألقاه البحر ميتا وقصته مشهورة .

                                                                                                                                                                                                                                      وحاصل تحرير فقه هذه المسألة : أن ميتة البحر على قسمين : قسم لا يعيش إلا في الماء ، وإن أخرج منه مات كالحوت ، وقسم يعيش في البر ، كالضفادع ونحوها .

                                                                                                                                                                                                                                      أما الذي لا يعيش إلا في الماء كالحوت فميتته حلال عند جميع العلماء ، [ ص: 50 ] وخالف أبو حنيفة - رحمه الله - فيما مات منه في البحر ، وطفا على وجه الماء فقال فيه : هو مكروه الأكل ، بخلاف ما قتله إنسان أو حسر عنه البحر فمات ، فإنه مباح الأكل عنده .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما الذي يعيش في البر من حيوان البحر : كالضفادع والسلحفاة والسرطان وترس الماء فقد اختلف فيه العلماء ؛ فذهب مالك بن أنس إلى أن ميتة البحر من ذلك كله مباحة الأكل ، وسواء مات بنفسه أو وجد طافيا أو باصطياد ، أو أخرج حيا ، أو ألقي في النار ، أو دس في طين .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن نافع ، وابن دينار : ميتة البحر مما يعيش في البر نجسة .

                                                                                                                                                                                                                                      ونقل ابن عرفة قولا ثالثا بالفرق بين أن يموت في الماء ، فيكون طاهرا ، أو في البر فيكون نجسا ، وعزاه لعيسى ، عن ابن القاسم . والضفادع البحرية عند مالك مباحة الأكل ، وإن ماتت فيه .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي " المدونة " : ولا بأس بأكل الضفادع وإن ماتت ; لأنها من صيد الماء . ا ه .

                                                                                                                                                                                                                                      أما ميتة الضفادع البرية فهي حرام بلا خلاف بين العلماء ، وأظهر الأقوال منع الضفادع مطلقا ولو ذكيت ، لقيام الدليل على ذلك ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      أما كلب الماء وخنزيره فالمشهور من مذهب مالك فيهما الكراهة .

                                                                                                                                                                                                                                      قال خليل بن إسحاق المالكي في " مختصره " عاطفا على ما يكره ، وكلب ماء وخنزيره .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الباجي : أما كلب البحر وخنزيره ، فروى ابن شعبان أنه مكروه ، وقاله ابن حبيب .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن القاسم في " المدونة " : لم يكن مالك يجيبنا في خنزير الماء بشيء ، ويقول : أنتم تقولون خنزيرا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن القاسم : وأنا أتقيه ولو أكله رجل لم أره حراما ، هذا هو حاصل مذهب مالك في المسألة ، وحجته في إباحة ميتة الحيوان البحري كان يعيش في البر أو لا .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : ( أحل لكم صيد البحر وطعامه ) [ 5 \ 96 ] ولا طعام له غير صيده إلا ميتته ، كما قاله جمهور العلماء ، وهو الحق ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم في البحر : [ ص: 51 ] " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " وقد قدمنا ثبوت هذا الحديث وفيه التصريح من النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن ميتة البحر حلال ، وهو فصل في محل النزاع . وقد تقرر في الأصول أن المفرد إذا أضيف إلى معرفة كان من صيغ العموم . كقوله : ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره ) [ 24 \ 63 ] ، وقوله : ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) [ 14 \ 34 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وإليه أشار في " مراقي السعود " بقوله عاطفا على صيغ العموم : [ الرجز ] . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

                                                                                                                                                                                                                                      وما معرفا بأل قد وجدا



                                                                                                                                                                                                                                      أو بإضافة إلى معرف إذا تحقق الخصوص قد نفى

                                                                                                                                                                                                                                      وبه نعلم أن قوله صلى الله عليه وسلم " ميتته " يعم بظاهره كل ميتة مما في البحر .

                                                                                                                                                                                                                                      ومذهب الشافعي - رحمه الله - في هذه المسألة هو أن ما لا يعيش إلا في البحر فميتته حلال بلا خلاف ، سواء كان طافيا على الماء أم لا .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية