الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      الجواب الخامس : هو ادعاء ضعفه وممن حاول تضعيفه ابن العربي المالكي ، وابن عبد البر ، والقرطبي .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن العربي المالكي : زل قوم في آخر الزمان فقالوا : إن الطلاق الثلاث في كلمة لا يلزم ، وجعلوه واحدة ونسبوه إلى السلف الأول فحكوه عن علي ، والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وعزوه إلى الحجاج بن أرطاة الضعيف المنزلة ، المغمور المرتبة ، ورووا في ذلك حديثا ليس له أصل ، وغوى قوم من أهل المسائل فتتبعوا الأهواء المبتدعة فيه وقالوا : إن قوله أنت طالق ثلاثا كذب ; لأنه لم يطلق ثلاثا ، كما لو قال : طلقت ثلاثا ولم يطلق إلا واحدة ، وكما لو قال : أحلف ثلاثا كانت يمينا واحدة .

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد طوفت في الآفاق ، ولقيت من علماء الإسلام ، وأرباب المذاهب كل صادق ، فما سمعت لهذه المسألة بخبر ، ولا أحسست لها بأثر ، إلا الشيعة الذين يرون نكاح المتعة جائزا ، ولا يرون الطلاق واقعا ، ولذلك قال فيهم ابن سكرة الهاشمي : [ السريع ]

                                                                                                                                                                                                                                      يا من يرى المتعة في دينه حلا وإن كانت بلا مهر     ولا يرى تسعين تطليقة
                                                                                                                                                                                                                                      تبين منه ربة الخدر     من هاهنا طابت مواليدكم
                                                                                                                                                                                                                                      فاغتنموها يا بني الفطر

                                                                                                                                                                                                                                      وقد اتفق علماء الإسلام ، وأرباب الحل والعقد في الأحكام على أن الطلاق الثلاث في كلمة ، وإن كان حراما في قول بعضهم ، وبدعة في قول الآخرين ، لازم . وأين هؤلاء البؤساء من عالم الدين ، وعلم الإسلام ، محمد بن إسماعيل البخاري ، وقد قال في [ ص: 130 ] " صحيحه " : " باب جواز الطلاق الثلاث " ، لقوله تعالى : الطلاق مرتان .

                                                                                                                                                                                                                                      وذكر حديث اللعان : فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يغير عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يقر على الباطل ; ولأنه جمع ما فسح له في تفريقه ، فألزمته الشريعة حكمه وما نسبوه إلى الصحابة كذب بحت ، لا أصل له في كتاب ولا رواية له عن أحد .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أدخل مالك في " موطئه " عن علي أن الحرام ثلاث لازمة في كلمة ، فهذا في معناها ، فكيف إذا صرح بها . وأما حديث الحجاج بن أرطاة فغير مقبول في الملة ، ولا عند أحد من الأئمة ، فإن قيل : ففي " صحيح مسلم " عن ابن عباس وذكر حديث أبي الصهباء المذكور ، قلنا : هذا لا متعلق فيه من خمسة أوجه : الأول : أنه حديث مختلف في صحته فكيف يقدم على إجماع الأمة ؟ ولم يعرف لها في هذه المسألة خلاف إلا عن قوم انحطوا عن رتبة التابعين وقد سبق العصران الكريمان والاتفاق على لزوم الثلاث ، فإن رووا ذلك عن أحد منهم فلا تقبلوا منهم إلا ما يقبلون منكم : نقل العدل عن العدل . ولا تجد هذه المسألة منسوبة إلى أحد من السلف أبدا .

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني : أن هذا الحديث لم يرو إلا عن ابن عباس ولم يرو عنه إلا من طريق طاوس ، فكيف يقبل ما لم يروه من الصحابة إلا واحد وما لم يروه عن ذلك الصحابي إلا واحد ؟ وكيف خفي على جميع الصحابة وسكتوا عنه إلا ابن عباس ؟ وكيف خفي على أصحاب ابن عباس إلا طاوسا ؟ اهـ محل الغرض من كلام ابن العربي ، وقال ابن عبد البر : ورواية طاوس وهم وغلط لم يعرج عليها أحد من فقهاء الأمصار بالحجاز ، والشام ، والعراق ، والمشرق ، والمغرب . وقد قيل : إن أبا الصهباء لا يعرف في موالي ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده عفا الله عنه : إن مثل هذا لا يثبت به تضعيف هذا الحديث ; لأن الأئمة كمعمر وابن جريج وغيرهما رووه عن ابن عباس وهو إمام ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، ورواه عن طاوس أيضا إبراهيم بن ميسرة ، وهو ثقة حافظ . وانفراد الصحابي لا يضر ولو لم يرو عنه أصلا إلا واحد ، كما أشار إليه العراقي في " ألفيته " بقوله : [ الرجز ]

                                                                                                                                                                                                                                      في الصحيح أخرجا المسيبا     وأخرج الجعفي لابن تغلبا



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 131 ] يعني : أن الشيخين أخرجا حديث المسيب بن حزن ، ولم يرو عنه أحد غير ابنه سعيد .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج البخاري حديث عمرو بن تغلب النمري ، ويقال العبدي ولم يرو عنه غير الحسن البصري هذا مراده . وقد ذكر ابن أبي حاتم أن عمرو بن تغلب روى عنه أيضا الحكم بن الأعرج ، قاله ابن حجر ، وابن عبد البر وغيرهما .

                                                                                                                                                                                                                                      والحاصل أن حديث طاوس ثابت في " صحيح مسلم " بسند صحيح ، وما كان كذلك لا يمكن تضعيفه إلا بأمر واضح ، نعم لقائل أن يقول : إن خبر الآحاد إذا كانت الدواعي متوفرة إلى نقله ولم ينقله إلا واحد ونحوه ، أن ذلك يدل على عدم صحته . ووجهه أن توفر الدواعي يلزم منه أن النقل تواترا والاشتهار ، فإن لم يشتهر دل على أنه لم يقع ; لأن انتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم ، وهذه قاعدة مقررة في الأصول ، أشار إليها في " مراقي السعود " بقوله عاطفا على ما يحكم فيه بعدم صحة الخبر : [ الرجز ] . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

                                                                                                                                                                                                                                      وخبر الآحاد في السني     حيث دواعي نقله تواترا
                                                                                                                                                                                                                                      نرى لها لو قاله تقررا

                                                                                                                                                                                                                                      وجزم بها غير واحد من الأصوليين ، وقال صاحب " جمع الجوامع " عاطفا على ما يجزم فيه بعدم صحة الخبر . والمنقول آحادا فيما تتوفر الدواعي إلى نقله خلافا للرافضة . اهـ منه بلفظه .

                                                                                                                                                                                                                                      ومراده أن مما يجزم بعدم صحته الخبر المنقول آحادا مع توفر الدواعي إلى نقله .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن الحاجب في " مختصره الأصولي " مسألة : إذا انفرد واحد فيما يتوفر الدواعي إلى نقله ، وقد شاركه خلق كثير . كما لو انفرد واحد بقتل خطيب على المنبر في مدينة فهو كاذب قطعا خلافا للشيعة . اهـ محل الغرض منه بلفظه . وفي المسألة مناقشات وأجوبة عنها معروفة في الأصول .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده عفا الله عنه : ولا شك أنه على القول بأن معنى حديث طاوس المذكور أن الثلاث بلفظ واحد كانت تجعل واحدة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر ، وصدرا من خلافة عمر ، ثم إن عمر غير ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون في زمن أبي بكر ، وعامة الصحابة أو جلهم يعلمون ذلك . فالدواعي إلى نقل ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون من بعده ، متوفرة توفرا لا يمكن إنكاره ، لأن يرد بذلك التغيير الذي أحدثه [ ص: 133 ] عمر فسكوت جميع الصحابة عنه وكون ذلك لم ينقل منه حرف عن غير ابن عباس ، يدل دلالة واضحة على أحد أمرين : أحدهما : أن حديث طاوس الذي رواه عن ابن عباس ليس معناه أنها بلفظ واحد ، بل بثلاثة ألفاظ في وقت واحد كما قدمنا ، وكما جزم به النسائي ، وصححه النووي والقرطبي وابن سريج . وعليه فلا إشكال ; لأن تغيير عمر للحكم مبني على تغيير قصدهم ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى " فمن قال أنت طالق ، أنت طالق ، أنت طالق ، ونوى التأكيد فواحدة ، وإن نوى الاستئناف بكل واحدة فثلاث . واختلاف محامل اللفظ الواحد لاختلاف نيات اللافظين به لا إشكال فيه ; لقوله صلى الله عليه وسلم : " وإنما لكل امرئ ما نوى " .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : أن يكون الحديث غير محكوم بصحته لنقله آحادا مع توفر الدواعي إلى نقله ، والأول أولى وأخف من الثاني ، وقال القرطبي في المفهم في الكلام على حديث طاوس المذكور : وظاهر سياقه يقتضي عن جميعهم أن معظمهم كانوا يرون ذلك ، والعادة في مثل هذا أن يفشو الحكم وينتشر فكيف ينفرد به واحد عن واحد ؟ قال : فهذا الوجه يقتضي التوقف عن العمل بظاهره ، إن لم يقتض القطع ببطلانه . اهـ منه بواسطة نقل ابن حجر في " فتح الباري " عنه ، وهو قوي جدا بحسب المقرر في الأصول كما ترى .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية