الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      المسألة الثالثة : هل يلزم في التيمم مسح غير الكفين ؟ اختلف العلماء في ذلك ، فأوجب بعضهم المسح في التيمم إلى المرفقين ، وبه قال أبو حنيفة ، والشافعي ، وأصحابهما ، والثوري ، وابن أبي سلمة ، والليث ، كلهم يرون بلوغ التيمم بالمرفقين فرضا واجبا ، وبه قال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، وابن نافع ، وإليه ذهب إسماعيل القاضي .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 360 ] قال ابن نافع : من تيمم إلى الكوعين أعاد الصلاة أبدا ، وقال مالك : في المدونة يعيد في الوقت ، وروي التيمم إلى المرفقين مرفوعا ، عن جابر بن عبد الله ، وابن عمر ، وأبي أمامة ، وعائشة ، وعمار ، والأسلع ، وسيأتي ما في أسانيد رواياتهم من المقال إن شاء الله تعالى ، وبه كان يقول ابن عمر ، وقال ابن شهاب : يمسح في التيمم إلى الآباط .

                                                                                                                                                                                                                                      واحتج من قال بالتيمم إلى المرفقين بما روي عمن ذكرنا من ذكر المرفقين ، وبأن ابن عمر كان يفعله ، وبالقياس على الوضوء ، وقد قال تعالى فيه : وأيديكم إلى المرافق .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده - عفا الله عنه - : الذي يظهر من الأدلة والله تعالى أعلم ، أن الواجب في التيمم هو مسح الكفين فقط ، لما قدمنا من أن الأحاديث الواردة في صفة التيمم لم يصح منها شيء ثابت الرفع إلا حديث عمار : وحديث أبي جهيم المتقدمين .

                                                                                                                                                                                                                                      أما حديث أبي جهيم ، فقد ورد بذكر اليدين مجملا ، كما رأيت ، وأما حديث عمار فقد ورد بذكر الكفين في الصحيحين ، كما قدمنا آنفا . وورد في غيرهما بذكر المرفقين ، وفي رواية إلى نصف الذراع ، وفي رواية إلى الآباط ، فأما رواية المرفقين ، ونصف الذراع ، ففيهما مقال سيأتي ، وأما رواية الآباط ، فقال الشافعي وغيره : إن كان ذاك وقع بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فكل تيمم للنبي - صلى الله عليه وسلم - بعده فهو ناسخ له ; وإن كان وقع بغير أمره ، فالحجة فيما أمر به ، ومما يقوي رواية الصحيحين في الاقتصار على الوجه والكفين ، كون عمار كان يفتي بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك ; وراوي الحديث أعرف بالمراد به من غيره ; ولا سيما الصحابي المجتهد ، قاله ابن حجر في " الفتح " .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما فعل ابن عمر ، فلم يثبت رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والموقوف على ابن عمر لا يعارض به مرفوع متفق عليه ، وهو حديث عمار .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد روى أبو داود عن ابن عمر بسند ضعيف ، أنه قال : " مر رجل على النبي - صلى الله عليه وسلم - في سكة من السكك ، وقد خرج من غائط أو بول فسلم عليه ، فلم يرد عليه حتى كاد الرجل يتوارى في السكك ، فضرب بيده على حائط ، ومسح بها وجهه ، ثم ضرب ضربة أخرى فمسح بها ذراعيه " ، ومدار الحديث على محمد بن ثابت ، وقد ضعفه ابن معين ، وأحمد والبخاري وأبو حاتم . وقال أحمد ، والبخاري : ينكر عليه حديث التيمم . أي [ ص: 361 ] هذا ، زاد البخاري : خالفه أيوب ، وعبيد الله والناس ، فقالوا عن نافع عن ابن عمر فعله .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو داود : لم يتابع أحد محمد بن ثابت في هذه القصة على ضربتين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ورووه من فعل ابن عمر ، وقال الخطابي : لا يصح ; لأن محمد بن ثابت ضعيف جدا ، ومحمد بن ثابت هذا هو العبدي أبو عبد الله البصري ، قال فيه في " التقريب " : صدوق ، لين الحديث .

                                                                                                                                                                                                                                      واعلم أن رواية الضحاك بن عثمان ، وابن الهاد لهذا الحديث عن نافع عن ابن عمر ، ليس في واحدة منهما متابعة محمد بن ثابت على الضربتين ، ولا على الذراعين ; لأن الضحاك لم يذكر التيمم في روايته ، وابن الهاد قال في روايته " مسح وجهه ويديه " ، قاله ابن حجر ، والبيهقي ، وروى الدارقطني ، والحاكم ، والبيهقي من طريق علي بن ظبيان ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : " التيمم ضربتان : ضربة للوجه ، وضربة لليدين إلى المرفقين " .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الدارقطني : وقفه يحيى القطان ، وهشيم وغيرهما ، وهو الصواب ، ثم رواه من طريق مالك عن نافع ، عن ابن عمر موقوفا ، قاله ابن حجر ، مع أن علي بن ظبيان ضعفه القطان ، وابن معين ، وغير واحد .

                                                                                                                                                                                                                                      وهو ابن ظبيان بن هلال العبسي الكوفي ، قاضي بغداد ، قال فيه في " التقريب " : ضعيف .

                                                                                                                                                                                                                                      ورواه الدارقطني من طريق سالم عن ابن عمر مرفوعا بلفظ : " تيممنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ضربنا بأيدينا على الصعيد الطيب ، ثم نفضنا أيدينا فمسحنا بها وجوهنا ، ثم ضربنا ضربة أخرى فمسحنا من المرافق إلى الأكف " الحديث ، لكن في إسناده سليمان بن أرقم ، وهو متروك .

                                                                                                                                                                                                                                      قال البيهقي : رواه معمر وغيره عن الزهري موقوفا ، وهو الصحيح ، ورواه الدراقطني أيضا من طريق سليمان بن أبي داود الحراني ، وهو متروك أيضا عن سالم ، ونافع جميعا عن ابن عمر مرفوعا بلفظ : " وفي التيمم ضربتان : ضربة للوجه ، وضربة لليدين إلى المرفقين " .

                                                                                                                                                                                                                                      قال أبو زرعة : حديث باطل ، ورواه الدارقطني ، والحاكم من طريق عثمان بن [ ص: 362 ] محمد الأنماطي عن عزرة بن ثابت ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " التيمم ضربة للوجه ، وضربة للذراعين إلى المرفقين " ، ومن طريق أبي نعيم عن عزرة بسنده المذكور ، قال : " جاء رجل ، فقال : أصابتني جنابة ، وإني تمعكت في التراب ، فقال : اضرب ، فضرب بيده الأرض فمسح وجهه ، ثم ضرب يديه فمسح بهما إلى المرفقين " .

                                                                                                                                                                                                                                      ضعف ابن الجوزي هذا الحديث بأن فيه عثمان بن محمد ، ورد على ابن الجوزي بأن عثمان بن محمد لم يتكلم فيه أحد ، كما قاله ابن دقيق العيد ، لكن روايته المذكورة شاذة ; لأن أبا نعيم رواه عن عزرة موقوفا ، أخرجه الدارقطني ، والحاكم أيضا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الدارقطني في " حاشية السنن " ، عقب حديث عثمان بن محمد : كلهم ثقات ، والصواب موقوف ، قال ذلك كله ابن حجر في " التلخيص " ، وقال في " التقريب " في عثمان بن محمد المذكور مقبول ، وقال في " التلخيص " أيضا ، وفي الباب عن الأسلع ، قال : " كنت أخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأتاه جبريل بآية الصعيد ، فأراني التيمم ، فضربت بيدي الأرض واحدة ، فمسحت بها وجهي ثم ضربت بها الأرض فمسحت بها يدي إلى المرفقين " ، رواه الدارقطني ، والطبراني ، وفيه الربيع بن بدر ، وهو ضعيف ، وعن أبي أمامة ، رواه الطبراني ، وإسناده ضعيف أيضا .

                                                                                                                                                                                                                                      ورواه البزار ، وابن عدي من حديث عائشة مرفوعا : " التيمم ضربتان : ضربة للوجه ، وضربة لليدين إلى المرفقين " ، تفرد به الحريش بن الخريت ، عن ابن أبي مليكة عنها قال أبو حاتم : حديث منكر ، والحريش شيخ لا يحتج به .

                                                                                                                                                                                                                                      وحديث : " أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لعمار بن ياسر : تكفيك ضربة للوجه ، وضربة للكفين " ، رواه الطبراني في الأوسط والكبير ، وفيه إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى ، وهو ضعيف ، ولكنه حجة عند الشافعي .

                                                                                                                                                                                                                                      وحديث عمار : " كنت في القوم حين نزلت الرخصة فأمرنا فضربنا واحدة للوجه ، ثم ضربة أخرى لليدين إلى المرفقين " .

                                                                                                                                                                                                                                      رواه البزار ، ولا شك أن الرواية المتفق عليها عن عمار أولى منه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن عبد البر : أكثر الآثار المرفوعة عن عمار ضربة واحدة ، وما روي عنه من ضربتين فكلها مضطربة ، اهـ ، منه ; فبهذا كله تعلم أنه لم يصح في الباب إلا حديث [ ص: 363 ] عمار ، وأبي جهيم المتقدمين ، كما ذكرنا .

                                                                                                                                                                                                                                      فإذا عرفت نصوص السنة في المسألة فاعلم أن الواجب في المسح الكفان فقط ، ولا يبعد ما قاله مالك رحمه الله من وجوب الكفين ، وسنية الذراعين إلى المرفقين ، لأن الوجوب دل عليه الحديث المتفق عليه في الكفين .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه الروايات الواردة بذكر اليدين إلى المرفقين تدل على السنية ، وإن كانت لا يخلو شيء منها من مقال ، فإن بعضها يشد بعضا ، لما تقرر في علوم الحديث من أن الطرق الضعيفة المعتبر بها يقوي بعضها بعضا حتى يصلح مجموعها للاحتجاج : لا تخاصم بواحد أهل بيت ، فضعيفان يغلبان قويا ، وتعتضد أيضا بالموقوفات المذكورة .

                                                                                                                                                                                                                                      والأصل إعمال الدليلين ، كما تقرر في الأصول .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية