الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        في السيرة النبوية (قراءة لجوانب الحذر والحماية)

        الدكتور / إبراهيم علي محمد أحمد

        المطلب الثاني

        مقاومة المسلمين لأسلوب الاضطهاد لقد جربت قريش الأساليب السالفة في الحرب النفسية، ولما تيقنت أنها لم تجد في إيقاف زحف الدعوة، وتقدمها، لجأت إلى أسلوب آخر يقوم على التعذيب والتنكيل بالرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه رضي الله عنهم ، وكونت لذلك لجنة بلغ عدد أعضائها خمسة وعشرين رجلا من سادات قريش، يتزعمها أبو لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم ، وبعد التشاور والتفكير، اتخذت اللجنة قرارا حاسما ضد الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه، فقررت ألا تألو جهدا في محاربة الإسلام، وإيذاء قائد الدعوة وصحبه، والتعرض لهم بألوان النكال والإيلام [1] .

        إذن، انتقلت قريش وجهازها المكون من خمسة وعشرين فردا، من الحرب النفسية المعنوية إلى الحرب المادية الجسدية، حيث التعذيب والتنكيل بالمسلمين، وقد تفنن هـذا الجهاز الرهيب في إلحاق صنوف من العذاب تتصف بالقسوة، وعدم الرحمة، وشدة الإيلام، بدءا بقائد الدعوة صلى الله عليه وسلم ، وانتهاء بالأرقاء، والضعفاء من المسلمين.. فقد نالت منهم زبانية هـذا الجهاز بزعامة أبي لهب ما نالت من صنوف العذاب، التي تقشعر لذكرها الأبدان.

        قيادة قريش تقوم بتعذيب قائد الدعوة صلى الله عليه وسلم

        لقد مارس هـذا الجهاز ألوانا من التعذيب والإيـذاء لشخـص [ ص: 72 ] الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقد وضع سلا الـجزور عليه وهو ساجد [2] .. وتفل عقبة ابن أبي معيط في وجهه.. ومرة وضعوا رداءه في عنقه، ثم جروه به حتى وجب [3] النبي صلى الله عليه وسلم ساقطا [4] .. هـذا إلى جانب ما كان يضعه جيرانه من القاذورات والأشواك أمام بابه [5] ، وكان الهدف من كل ذلك ثني النبي صلى الله عليه وسلم أو على أقل تقدير تعطيله عن القيام بالدعوة إلى الله، وهو الأسلوب الذي لجأت إليه قريش ، كما أسلفنا، بعد فشلها في الحرب النفسية ضد شخص النبي صلى الله عليه وسلم ، فكان لثبات النبي صلى الله عليه وسلم ، وصبره على هـذه الألوان من العذاب، كبير الأثر في نفوس المؤمنين، فتحملوا العذاب بصبر وجلد، تأسيا به.

        وهذه بعض صور التعذيب التي تعرض لها أفراد الدعوة من قبل الجهاز القرشي، وهي تتفاوت من شخص لآخر، شدة ولينا، طولا وقصرا.

        - التعذيب بحرارة الشمس (الرمضاء)

        فمن الذين أوذوا في الله سيدنا بلال بن رباح ، رضي الله عنه ، الذي تولى تعذيبه، وأشرف عليه، أمية بن خلف ، حيث كان يجعل في عنقه حبلا، ويدفعه إلى الصبيان يلعبون به ويجرونه، ثم يذهب به إلى رمضاء مكة، ويلقى على ظهره، وتوضع على صدره صخرة عظيمة، ويقولون له : لا تزال هـكذا حتى تموت، أو تكفر بمحمد، [ ص: 73 ] وتعبد اللات والعزى، فكان جوابه : أحد أحد. فمر به سيدنا أبو بكر ، رضي الله عنه يوما، وهو على هـذه الحالة، فقال : يا أمية أما تتقي الله في هـذا المسكين، حتى متى تعذبه؟ قال : أنت أفسدته، فأنقذه مما ترى، فاشتراه وأعتقه [6] .

        لقد كان الهدف من هـذا التعذيب واضحا، وهو حمل المسلمين قسرا على ترك الإسلام، والعودة إلى الشرك، حيث كان الخيار المطروح أمام بلال : الموت أو الكفر، ولكن فات على قريش أن الخيار الأول أحب إلى بلال من الثاني، فكان جوابه : أحد أحد.

        وهنا تظهر حكمة أبي بكر، رضي الله عنه ، وسلامة تصرفه حيال هـذا الموقف، حيث استخدم الأسلوب العاطفي، وحاول استمالة قلب أمية، فرغبه ورهبه من هـذا التعذيب لهذا الرجل المسكين الضعيف، مما كان له الأثر الكبير في عتق بلال، وفكه من العذاب.

        - التعذيب بالنار حتى الموت

        قامت قريش باستخدام النار في تعذيب المسلمين، حيث عذبت أسرة بأكملها آل ياسر بالنار، فمات الشيخ ياسر تحت التعذيب، وقتلت سمية بطعنة رمح، فكانت أول شهيدة في الإسلام، أما عمار فتلفظ بكلمة الكفر مكرها، فرفع عنه العذاب إلى حين، وفيه نزل [7] قولـه تعـالى : ( من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) (سورة النحل : 106) . [ ص: 74 ]

        وممن عذب بالنار أيضا سيدنا خباب بن الأرت رضي الله عنه ، فكانت مولاته تعذبه بالنار، فتأتي بالحديدة المحماة، فتجعلها على ظهره ليكفر، فلا يزيده ذلك إلا إيمانا.. وممن عذب بالنار كذلك، سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه [8] .

        لقد قصدت قريش من هـذا التعذيب، فتنة المسلمين، وصدهم عن دينهم ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، بدليل أن سيدنا عمارا لـما تلفظ بكلمة الكفر تركوه، وأما الذين صمدوا وصبروا، فإما قتلوا تحت التعذيب، أو أعجزوا قريش صبرا وتحملا.

        وفي موقف عمار ملحظ له دلالاته.. فحين اشتد عليه العذاب، تلفظ بسب النبي صلى الله عليه وسلم مكرها، وقد جاء القرآن مستثنيا من الكفر هـذا التصرف، بل قال له الرسول صلى الله عليه وسلم : (إن عادوا فعد) .. وعلى ذلك يجوز للمسلم المداراة في حالة الإكراه، بشرط أن يبقى قلبه مطمئنا بالإيمان، لكن ليس ذلك على إطلاقه، فإذا كان التلفظ ببعض الكلمات يلحق ضررا بالغا بالدعوة والمدعوين، ففي هـذه الحالة، الصبر والثبات أولى.. والضرورات تقدر بقدرها.

        - مجابهة المسلمين لاضطهاد قريش

        لقد كان لثبات وصبر الصحابة، وعلى رأسهم المصطفى صلى الله عليه وسلم ، كبير الأثر على معنويات قريش ، التي ضاقت ذرعا بهذا الصبر والتحمل، الذي وقف سدا منيعا دون حصول قيادة قريش على ما تريد. [ ص: 75 ]

        وثمة عوامل كانت وراء هـذا الثبات العظيم، والصبر الجميل، على الأصناف والألوان المختلفة من العذاب، لعل من أهمها :

        - دور الرسول صلى الله عليه وسلم ، وذلك بعد الإيمان القاطع بالله، إذ ضرب لهم المثل بنفسه، فناله ما ناله من عذاب في سبيل الله، وفي ذلك سلوى للمسلمين، فعندما ينظرون إلى عذاب سيد البشر صلى الله عليه وسلم ، يهون عليهم عذابهم، مما يدفعهم إلى الصبر والثبات تأسيا به صلى الله عليه وسلم .

        - ومما أعان الصحابة رضي الله عنهم على الصبر والتحمل، دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لهم، فكان عندما يمر عليهم وهم يعذبون، يدعو لهم، ويحثهم على الصبر، مبشرا إياهم بالجنة، فكان ( يقول لآل ياسر: صبرا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة، اللهم اغفر لآل ياسر وقد فعلت ) [9] .. فهذا مما يعطي الصحابـة دافعا، وقـوة معنويـة لا تليـن، ولا تركن للكافرين، فمات ياسر رضي الله عنه تحت التعذيب، ونالت سمية رضي الله عنها الشهادة.

        - وتارة كان النبي صلى الله عليه وسلم يعد الصحابة بالنصر والتمكين، ضاربا لهم المثل من الذين خلوا من قبلهم، فعندما جاءه خباب رضي الله عنه ، وسأله أن يدعو الله لهم كي يخفف عنهم هـذا العذاب، أجابه بقوله: ( كان الرجل فيمن قبلكم، يحفر له في الأرض، فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، [ ص: 76 ] وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هـذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت [وفي رواية : إلى مكة] لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون ) [10] .

        لقد كان رد النبي صلى الله عليه وسلم على شكوى خباب ، الذي اشتد عليه عذاب الكفار، شافيا، وذلك لاشتماله على مبدأ التشجيع.. والتشجيع مبدأ فيه سلوى وتخفيف، فقد وضح له أن عذاب الذين سبقوه من المؤمنين كان أشد مما يلاقونه الآن، وذلك ليستثير صبره، ثم فتح له باب الأمل، بأن بشره بمستقبل الإسلام، وانتشاره، وبسط الأمن والطمأنينة.. وهنا يظهر تصرف الرسول القدوة صلى الله عليه وسلم ، حيث أفسد الأثر الذي تركته قريش في نفس خباب، وبالتالي فوت عليهم الفرصة، فرجع خباب أقوى إيمانا مما كان عليه قبل مواساة الرسول صلى الله عليه وسلم له.

        - ومما ساعد المسلمين على اجتياز هـذه المحنة، التي أوقعهم فيها كفار قريش، الشعور بالمسئولية، حيث كان الصحابة رضي الله عنهم يشعرون شعورا تاما بما على كواهلهم من المسئولية الضخمـة، التـي لا يمكن الحياد عنها، أو الانحراف بحال، فالعواقب التي تترتب على الفرار من تحملها أشد ضخامة، وأكبر ضررا عما هـم فيه من الاضطهاد والعذاب [11] .

        كما أنه كان للقرآن دور بارز في تهوين المتاعب، والمرارات التي كان يحسها الصحابة أثناء التعذيب، والاضطهاد، فيجدون فيه [ ص: 77 ] البلسم الشافي، إذ يحثهم على الصبر، ويوضح لهم ثواب الصابرين فيصبرون، ويوضح لهم مصير الزبانية، والمتكبرين فيسخرون منهم، ويحتقرون فعلهم، ويرشدهم إلى أن هـذه الفتنة، وهذا الابتلاء، من طبيعة الطـريـق، وأنهـا شيء لا بـد منـه، لتمييز الصـادق من الكـاذب : ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ) (البقرة : 214) .

        ومن تبعـات الإيمـان، كمـا يوضـح القـرآن، الابتـلاء والامتحـان: ( الم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ) . (العنكبوت : 1-3)

        وعلى هـذا يمكن أن نلخص العوامل التي جابه بها المسلمون اضطهاد قيادة قريش، فيما يلي :

        الإيمان بالله تعالى إيمانا راسخا ثابتا.. التأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم .. الدعاء وطلب الصبر والثبات من الله.. الشعور بالمسئولية الملقاة على عاتق المؤمن.. الإيمان بالدار الآخرة، وما فيها من ثواب وعقاب.. مصاحبة القرآن الكريم.

        وما أحوج المسلمين اليوم، وهم يعانون ما يعانون من المحاصرة والاضطهاد، إلى الإفادة من السيرة، والتأسي بمواقف الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ، [ ص: 78 ] في مواجهة المخاطر والمؤامرات التي تحيط بدعوتهم.

        والمتتبع لتأريخ الدعوة، يقف على ما تقشعر لذكره الأبدان، ويخفق لسماعه الجنان.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية