الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        في السيرة النبوية (قراءة لجوانب الحذر والحماية)

        الدكتور / إبراهيم علي محمد أحمد

        المطلب الثالث

        جوانب الحذر والحيطة في اختيار طريق الهجـرة وعدد أفراد الركب ودخول المدينـة

        أولا: اختيار طريق الهجـرة

        المتأمل في طريق الهجرة ، يجد أنه كان أقصر الطرق الموصلة إلى المدينة ، ولم يكن من الطرق المألوفة، ولا يخفى ما في ذلك من أبعاد للحماية. فقصر الطريق يقلل من الزمن الذي تستغرقه الرحلة عادة ما بين مكة والمدينة، وهو أمر مطلوب في مثل هـذه الرحلة المحفوفة بالمخاطر، والتي يتعقبها المشركون. كما أن الطريق القصير لا يحتاج إلى كثير زاد بخلاف الطويل، أما كونه غير مألوف ففي ذلك زيادة في الاحتياط الأمني، إذ غالبا ما تكون جهود قيادة قريش منصبة على الطريق العام، وربما غاب عنها مثل هـذا الطريق، مما قد يترتب عليه ندرة، أو عدم المراقبة لهذا الطريق، الأمر الذي يسهل مهمة ركب الهجرة في الوصول إلى المدينة المنورة. [ ص: 163 ]

        ثانيا: عدد أفراد الركب

        من المعلوم أن قريشا كانت تريد إلقاء القبض على النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه، وعلى هـذا فهي تحاول التركيز على أي ركب يتألف من شخصين، وتعده هـدفا لها، ولكن حنكة وحكمة الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه، جعلت من أفراد الركب أربعة أشخاص، حيث انضم إليهما الدليل عبد الله بن أريقط ، وعامر بن فهيرة [1] . وهذا العدد يبعد الشبهة إلى حد كبير عن الركب؛ لأنه يتكون من أربعة، بينما التركيز في الغالب على الركب الذي يتكون من اثنين.

        ثالثا: دخـول الركب المدينـة المنـورة

        حين دخل الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة ، مر تقريبا بجميع بطون قبيلتي الأوس والخزرج ، فقد مر ببني عمرو بن عوف ، وبني سالم ، وبني بياضة ، وبني ساعدة ، وبني الحارث ، وبني عدي بن النجار ، وكان يرد عليهم حين يطلبون منه النزول بقوله: ( دعوها فإنها مأمورة ) [2] .

        إن مرور الرسول صلى الله عليه وسلم ببطون الأوس والخزرج، يكشف عن بعد أمني هـام كان له دور كبير في الحفاظ على تماسك ووحدة الجبهة الداخلية للمدينة المنورة ، فأشهر سكان المدينة كانوا من الأوس والخزرج، [ ص: 164 ] وكانت الحروب تقوم بينهما لأسباب واهية، وكان لليهود الـدور الأكبـر في إيقاد نار الفتنـة بين الأوس والخـزرج [3] فلو مـر الرسول صلى الله عليه وسلم بقبيلة دون أخرى، ربما استغل ذلك اليهود، وأشاعوا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم يفضل هـذه القبيلة على تلك، مما قد يؤدي إلى نشوب حرب أهلية بين القبيلتين، لذا مر الرسول صلى الله عليه وسلم على ديار القبيلتين.

        كما أنه لم ينزل على قبيلة دون أخرى، للسبب ذاته، وإنما جعل أمر النزول إلهيا، وليس اختيارا من عنده صلى الله عليه وسلم ، وهذا يتضح من قوله لهم: ( دعوها فإنها مأمورة ) ، فإذا نزل كان النزول بأمر الله، فيرضى الجميع به، ويوقنون أنه أمر إلهي يجب التسليم به، فلا يحدث نزوله ساعتها حساسية في نفوس الذين لم ينزل عليهم، وبالتالي يكون الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا التصرف الحكيم قد فوت على أعداء الدعوة فرصة كان يمكن استغلالها، للنيل من وحدة المجتمع المسلم.

        وبعـد:

        فهذه بعض ملامح اليقظة والحذر، ووسائل تأمين الحماية للدعوة في مسيرة الرسول القدوة صلى الله عليه وسلم ، لتكون محل التأسي والاقتداء للمسلم في دعوته، ودقة تعامله مع الآخرين، وحماية مكتسبات الدعوة من التبديد والتدمير، وتبقى العناية الإلهية هـي الملاذ الأخير حيث لا ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه، والحمد لله رب العالمين. [ ص: 165 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية