الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        في السيرة النبوية (قراءة لجوانب الحذر والحماية)

        الدكتور / إبراهيم علي محمد أحمد

        المبحث الثاني

        جوانب الحذر والحيطة في الإعداد للهجرة

        صاحب الإعداد للهجرة، اتخاذ عدة جوانب من الحذر والحيطة، بعضها قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعضها الآخر قام به سيدنا أبو بكر رضي الله عنه ، وسوف نقف في هـذا المبحث على تلك الجوانب بعون الله.

        المطلب الأول

        جوانب من الحذر والحيطة فيما قام به الرسول صلى الله عليه وسلم

        لقد أولى النبي صلى الله عليه وسلم أمر الهجرة اهتماما بالغا، فما أن جاءه الوحي بأمر الهجرة حتى باشر في تنفيذه بدقة، وإحكام، وتأمين، وهذا يظهر من استعراضنا للجوانب التي صاحبت مراحل إعداده صلى الله عليه وسلم لهجرته، والتي من أبرزها ما يأتي:

        - اختيار الوقت المناسب لإيصال المعلومة

        عندما جاء الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة، وأراد أن يخبر صديقه الوفي أبا بكر رضي الله عنه ليصحبه معه، اختار لذلك وقت الظهيرة، وهي ساعة لم يكن قد اعتاد المجيء فيها إلى بيت أبي بكر رضي الله عنه . ( قالت عائشة رضي الله عنها : بينما نحن جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هـذا رسول الله متقنعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها ) [1] . [ ص: 140 ]

        ففي مثل هـذا الوقت تقل الحركة، ويندر الرقيب، وبالتالي يضمن الرسول صلى الله عليه وسلم أن من الصعوبة على قيادة قريش وعيونها أن ترصده، مما يجعل أمر اللقاء أقرب إلى الخفاء، ومعلوم أن هـذا التحرك كان بعد أن أخبر جبريل عليه السلام سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم بمؤامرة قريش لقتله، وهذا مما يطرح احتمال أن تكون قيادة قريش تراقب عن كثب تحركات المصطفى صلى الله عليه وسلم .. وحتى يفوت الرسول صلى الله عليه وسلم الفرصة على عيون قريش، جاء في مثل هـذا الوقت الذي لم يعتد الحضور فيه لبيت أبي بكر رضي الله عنه ، إذ كان يأتي طرفي النهار [2] .. فإذا افترضنا أن هـناك من يراقب منزل أبي بكر ، فإنه غالبا يراقبه في هـذين الوقتين دون سواهما.

        - إخفاء الشخصية أثناء تنفيذ المهمة

        من الطبيعي أن يخفي الإنسان معالم شخصيته أثناء تنفيذ المهمات الصعبة والحساسة، حتى لا يثير الريبة والشك لدى أعدائه، وبخاصة إذا كان الصراع بينهما محتدما؛ لأنه متى ما علم الطرف الآخر بتحركات خصمه، راقبه وتابعه، حتى يتبين له ماذا ينوي فعله، لذا جاء الرسول صلى الله عليه وسلم متلثما لبيت أبي بكر رضي الله عنه [3] ، فالتلثم يقلل من إمكانية التعرف على معالم وجه الـمتلثم، وبالتالي التعرف عليه، وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم حتى يخفي شخصيته عن زعماء قريش.

        - التأكد والتثبت قبل النطق بالمعلومة

        حينما دخل الرسول صلى الله عليه وسلم بيت أبي بكر رضي الله عنه ، وقبل أن يخبره خبره، طلب منه أن يخرج من معه من البيت، ( فقال: أخرج عني من عندك ) [4] ، [ ص: 141 ] وهذا احتياط أمني ضروري، لخطورة الأمر، فأي تسرب لهذه المعلومة، ستكون عواقبه وخيمة على الدعوة وقائدها؛ لأن أمر الهجرة مايزال في طوره الأول، فعندما تأكد النبي صلى الله عليه وسلم من خلو بيت أبي بكر رضي الله عنه من العيون، أخبر صاحبه بأمر الهجرة.

        وثمة نقطة هـامة تستوجب الوقوف عندها، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعط سيدنا أبا بكر المعلومة كاملة أمام أسرته، فأخبره بالهجرة فقط، دون أن يذكر له مكان الهجرة بدليل أن أسماء رضي الله عنها عندما سمعت الصوت القائل :


        جزى الله رب الناس خير جزائه رفيقين حلا خيمتي أم معبد

        قالت (أسماء) : (فلما سمعنا قوله، عرفنا أن وجهه كان إلى المدينة المنورة) [5] .

        وهذا شيء ضروري يجب الانتباه له في تعامل الداعية مع أسرته، بحيث يكون هـذا التعامل في ضوء إمكانات كل فرد منها والثقة به، ومعرفة مدى فائدة إيصال المعلومة إليه أو منعها عنه.

        لذا لم يعط الرسول صلى الله عليه وسلم المعلومة كاملة أمام أسماء وعائشة رضي الله عنهما ، ليتأسى به من بعده من الدعاة، فالأعداء غالبا ما يلجأون إلى أسر الدعاة للحصول على المعلومة منهم، سواء كان ذلك عن طريق الترغيب أو الترهيب، وهذا ما حدث من قريش ، " قالت أسماء رضي الله عنها : (أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل، فوقفوا على باب [ ص: 142 ] أبي بكر، فقالوا: أين أبوك؟ فقلت: لا أدري، فرفع أبو جهل يده فلطم خدي لطمة طرح قرطي " [6] .

        - التمويه في مبيت علي رضي الله عنه في فراشه صلى الله عليه وسلم

        : قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب : نم في فراشي، وتسج ببردي هـذا، الحضرمي الأخضر، فنم فيه، فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام في برده ذلك إذا نام [7] .

        لقد كان تصرف النبي صلى الله عليه وسلم بتوجيه علي للنوم في فراشه، وتسجيه ببرده، تصرفا سليما حكيما، إذ في ذلك تمويه تقتضيه ظروف وملابسات الموقف، وقد ظهرت حكمة وحنكة ذلك التصرف حينما قال الرجل الذي رأى سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم خارجا من بيته، قال لأفراد المهمة : (خيبكم الله، قد والله خرج عليكم محمد ، ثم ما ترك رجلا إلا وقد وضع على رأسه ترابا، أما ترون ما بكم؟ فوضع كل رجل منهم يده على رأسه، فإذا عليه تراب، ثم جعلوا يتطلعون فيرون عليا على الفراش، متسجيا ببرد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيقولون : والله إن هـذا لمحمد نائما عليه برده، فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا) [8] هـذا التمويه، فوت على قريش فرصة إدراك رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وهو مع حماية ربه له، إلا أن ذلك لم يمنعه من أن يأخذ بأسباب الاحتياط البشري الذي يملكه.. وما أحوج المسلمين إلى إدراك واجبهم [ ص: 143 ] في الإعداد لمواجهة العدو، رغم اعتمادهم الأول والأخير على الله تعالى، وألا يعتادوا إحالة ضعفهم، وتقصيرهم على القدر، متوجعين على تأخر نصر الله تعالى [9] .

        - اختيار الدليل

        كان من مستلزمات الإعداد للهجرة، الخبرة الكافية بالطريق من حيث القصر والطول، والبعد عن المسالك المعروفة والمألوفة، حتى يكون الركب بعيدا عن العيون، لذا استأجر الرسول صلى الله عليه وسلم دليلا ماهرا عالما بآمن وأقصر الطرق بين مكة والمدينة المنورة ، وهو عبد الله بن أريقط ، وكان على دين قريش [10] ، وذلك حتى لا يضلا الطريق، أو يسلكا طريقا معروفا، مما يجعلهما عرضة لمطاردات قريش .

        ولنا وقفة مع عبد الله بن أريقط المشرك، الذي قاد ركب الإيمان إلى المدينة .. فالعبرة هـنا في التعامل مع المشركين، وتسخيرهم لخدمة الدعوة بمقدار ما أمن جانبهم، وعليه فيمكن للمسلم التعامل مع غيره وفق مستوى عدائه لهذا الدين.

        إن المنطق الظاهري يقتضي عدم اختيار عبد الله بن أريقط دليلا لأخطر هـجرة في تأريخ الدعوة؛ لأنه مشرك، ولكن تقدير الرسول صلى الله عليه وسلم لشخصه بأنه أمين وصادق، لا يمكن أن يبوح بهذا السر، جعله يسند له تلك المهمة، هـذا ما حدث فعلا، فلم يخبر قريشا بالأمر، على الرغم من [ ص: 144 ] الإغراء المادي الضخم، الذي قدمته قريش لمن يدل على محمد صلى الله عليه وسلم .. وهذا دليل على نقاء معدن الرجل، وصدق فراسة الرسول صلى الله عليه وسلم [11] .

        - كتم خبر الهجرة

        من الضروري جدا لإنجاح أي مهمة حساسة كالهجرة، أن يكون أمرها طي الكتمان؛ لأن ذيوع خبرها يؤدي إلى اكتشافها، وبالتالي فشلها، وكلما كان الأمر محصورا في عدد قليل جدا، كلما كانت فرصة تسربه واكتشافه ضئيلة ونادرة.

        لذا نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كتم أمر الهجرة عن أصحابه إلا عن قلة قليلة، قال ابن إسحاق : (ولم يعلم فيما بلغني بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج إلا علي وأبو بكر وآل أبي بكر) [12] ، ونلاحظ أن هـذه القلة كانت لها أدوار معينة تقوم بها، ولولا ذلك لما أخبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر الهجرة .

        المطلب الثاني

        جوانب الحيطة والأمن فيـما قـام به أبو بكـر رضي الله عنه لقد قام أبو بكر رضي الله عنه بدور بارز وكبير في الهجرة، وشارك رسول الله صلى الله عليه وسلم في حسن الإعداد لها، وقد صاحب هـذا الإعداد عدة جوانب حذرة ويقظة، كان من أبرزها : [ ص: 145 ]

        - تهيئة وسيلة الهجرة

        فلا ريب أن رحلة طويلة كرحلة الهجرة من مكة إلى المدينة تحتاج إلى وسيلة معدة ومهيئة، تناسب طبيعة الأرض والمناخ، وهذا ما فعله سيدنا أبو بكر رضي الله عنه ، فحين علم بأن النبي صلى الله عليه وسلم سوف يهاجر حبس نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم لصحبته، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر أربعة أشهر [13] .

        فالإبل تعد أنسب وسيلة سفر في الصحراء إبان ذلك العصر. فهي حيوان صحراوي، يتحمل طبيعة الصحراء القاسية بما له من صبر وقوة تحمل، وذلك لما أودعـه الله فيهـا من خصـائص، فالجمـل يصبـر أياما لا يشرب، وهذا ضروري جدا للرحلة؛ لأنها تمر عبر طريق غير مأهولة، يندر فيها الماء، كما أن السير في رمال الصحراء لا يناسبها إلا خف البعير؛ لأنها مسطحة لا تغوص في الرمال، فتعوق بذلك سرعة الحركة، بل تثبت على السطح، وتزيد من سرعة الحركة، الأمر الذي تتطلبه الرحلة.

        كما أن طريقا مهجورا كطريق الهجرة، ورحلة طويلة كهذه، تحتاج إلى نوع من الجمال يمتـاز بالقـوة؛ ولأجـل ذلك علفهـا سيدنـا أبو بكر رضي الله عنه ورق السمر، ولمدة أربعة أشهر، وهو غذاء ممتاز للإبل يمدها بالطاقة الكافية، لتحمل السفر لمسافات طويلة دون أن يصيبها الجهد.

        لقد أعد أبو بكر للأمر عدته، وفي ذلك تنبيه وتعليم للمسلمين، على امتداد الزمان؛ للأخذ بالأسباب، والتفكير والتدبير المناسب لكل حالة، [ ص: 146 ] فيعدون لكل أمر ما يناسبه من التخطيط، سواء أكان ذلك مما يتصل بالزمان أو المكان، أو كليهما.

        - تموين الهجرة

        هذه الرحلة الطويلة في شعاب مكة وصحراء المدينة، تحتاج إلى تأمين الزاد، أثناء الاختباء بالغار، وأثناء الرحلة إلى المدينة ، وتلك مهمة اضطلع بها أبو بكر وأهل بيته رضي الله عنهم .. " قالت عائشة رضي الله عنها : (فجهزناهما أحث [14] الجهاز، ووضعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر من نطاقها فأوكأت به الجراب " [15] . قال ابن إسحاق : وكانت أسماء تأتيهما من الطعام، إذا أمست، بما يصلحهما [16] ولا يخفى أهمية جانب تأمين الزاد، فعدم تأمينه يؤدي إلى الجوع الذي قد يفضي إلى الهلاك، كما أن الرحلة تحتاج إلى قوة تحمل وصبر، ولياقة عالية، وهذا ما لا يتحقق مع الجوع، كما أن عدم تأمين الزاد يجعلهم يلتمسونه أثناء الطريق، الأمر الذي يؤخر سيرهم، أو قد يعرضهم لخطر اكتشاف أمرهم.

        - تسخير الأسرة لأمر الهجرة

        رحلة كهذه تحتاج لأعوان وعيون، حتى تتم بصورة محكمة ودقيقة، وهذا يتطلب التأني والحيطة في اختيار أمثال هـؤلاء، فأي إخفاق في اختيارهم، يعد إخفاقا في الأمر كله.. ونسبة لمعرفته التامة [ ص: 147 ] بأهل بيته، وقع اختيار أبي بكر رضي الله عنه ، على أفراد أسرته، للقيام بهذه الأدوار المتنوعة، من إعداد الطعام، وإخفاء الأثر، ونقل أخبار العدو أولا بأول، فباتت أسرة أبي بكر كلها تعمل من أجل إنجاح الخطة المرسومة للهجرة، فقام كل فرد فيها بأداء الدور المنوط به خير قيام.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية