الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        المبحث الثالث

        من الدار إلى الغار

        المطلب الأول

        من الدار حتى دخول الغار كانت بداية الهجرة من بيت أبي بكر رضي الله عنه [1] ، ومن ثم التوجه إلى الغار ، ومنذ البداية يظهر لمن يتتبع وقائع الهجرة الاحتياط الأمني والتخطيط الدقيق والتنفيذ المتقن، مما يجعل هـذه المرحلة من الهجرة تنطوي على عدة جوانب أمنية، من بينها:

        أولا: التوقيت المناسب للخروج

        غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته في ليلة سبع وعشرين من شهر صفر، وأتى دار رفيقه أبي بكر رضي الله عنه ، ثم غادراها من باب خلفي، ليخرجا من مكة على عجل، وقبل أن يطلع الفجر [2] ، وهذا مما يشير إلى التخطيط الدقيق واختيار الوقت المناسب.. فالليل كما هـو معلوم ستار آمن، يمكن التحرك فيه بكثير من الاطمئنان، مما يقلل من [ ص: 148 ] احتمالات رؤيتهما. هـذا إلى جانب أن قيادة قريش كانت في هـذا الوقت متجمعة حول بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم معتقدة أن النبي صلى الله عليه وسلم بداخله، فكل تفكيرها وتدبيرها، كان مركزا على هـذا المكان، دون سواه، مما سهل مهمة الخروج لركب الهجرة في مثل هـذا الوقت دون أن تعترضه عيون قريش، التي باتت ترقب سيدنا عليا رضي الله عنه ، ظنا منها أنه النبي صلى الله عليه وسلم .

        وكون هـذا التحرك تم قبل الفجر، ربما كان على تقدير أن قريشا لن تكشف حقيقة الأمر إلا بعد طلوع الفجر، بعد قيام علي رضي الله عنه عن فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا ما حدث فعلا. يقول ابن إسحاق : (فلم يبرحوا حتى أصبحوا، فقام علي رضي الله عنه عن الفراش) [3] ، وبالتالي تكون الفرصة قد فاتت على قريش، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه قد وصلا إلى الغار بسلام.

        أما خروجهم من الباب الخلفي، فهو من باب الاحتياط إذ هـناك احتمال أن يكون بيت أبي بكر رضي الله عنه مراقبا، وهو احتمال كبير للعلاقة الحميمة التي كانت تربط أبا بكر بالنبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا كانت المراقبة قائمة من بيت مجاور أو من مكان قريب، فستكون لباب البيت بالذات، يرصد من خلاله الداخلون والخارجون.. وفي الخروج من مخرج سري، بعيد عن المراقبة، مراعاة للمحافظة الدائمة على السرية، ووضع الاحتمالات الكثيرة احتياطا لتخطيط العدو ومراقبته [4] [ ص: 149 ]

        ثانيا: الخروج إلى الغار سيرا على الأقدام

        لقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر من بيت الصديق سيرا على الأقدام، حتى دخلا الغار ، فمشى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أطراف أصابعه حتى حفيت رجلاه، فلما رآها أبو بكر أنها قد حفيت حمله على كاهله، وجعل يشتد به، حتى أتى به الغار فأنزله [5] .

        وفي ذلك اعتبارات أمنية ظاهرة، فسيرهم على الأقدام يجعل أثرهم أقل وضوحا مما لو كانا راكبين، إضافة إلى أن الركوب على الدواب في مثل هـذا الوقت من الليل ملفت للنظر، وربما تنبهت قيادة قريش للأمر، فتفسد الخطة، كما أن حركة الرواحل في الغالب يصدر عنها صوت، مما يجعل الركب عرضة لإثارة فضول قريش فتسأل الركب، أو تستوقفـه لتستوضـح أمـره، بعكـس السيـر على الأقـدام فلا يحدث صوتا، وبخاصة إذا كان السير على أطراف الأصابع، كما كان يسير الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهذا السير يزيد من فرص نجاح المهمة.

        ثالثا: التمويه في الخروج إلى الغار

        يقع غار (ثور) جنوبي مكة المكرمة [6] ، بينما يقع الطريق المؤدي إلى المدينة شمال مكة المكرمة ، وهنا تبدو دقة التخطيط، والاحتياط الأمني. قال المباركفوري : (ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن قريشا ستجد في الطلب، وأن الطريق الذي ستتجه إليه الأنظار لأول وهلة هـو طريق [ ص: 150 ] المدينة الرئيسى المتجه شمالا، فقد سلك الطريق الذي يضاده تماما، وهو الطريق الواقع جنوبي مكة ، والمتجه نحو اليمن ، سلك هـذا الطريق نحو خمسة أميال حتى بلغ جبلا يعرف بجبل ثور ) [7] المطلب الثاني

        الاحتياطات الأمنية أثناء الإقامة بالغار لقد تخللت إقامة النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار بعض الاحتياطات الأمنية، سنحاول تناول أهمها في هـذا المطلب.

        أولا: تدخل العناية الإلهية

        على الرغم من كل الجهد البشري في التمويه والاختفاء والسرية، استطاعت قيادة قريش أن تصل إلى مكان الغار، سواء أكان ذلك عن طريق تتبع الأثر، أو المسح الشامل لجبال مكة بحثا عن النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه [8] ، وكانت قريش قاب قوسين أو أدنى من بغيتها، حتى " قال سيدنا أبو بكر رضي الله عنه : (يا نبي الله! لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا " [9] .

        وهنا تدخلت العناية الإلهية، فرأت قريش على باب الغار نسج عنكبوت، فقالوا : لو دخل هـاهنا أحد لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فرجعت قريش عن الغار [10] . [ ص: 151 ]

        ويمكن أن نلمح من هـذه الحادثة عدة أمور، منها :

        - أنه حين يبلغ الجهد البشري مداه المطلوب، وحين تستنفد الطاقة البشرية، فإن الله تعالى يرحم عبده المؤمن، ويحفظه من كيد الأعداء.

        ثانيا: التجسس ورصد تحركات قيادة قريش

        كلما كانت القيادة أعلم بواقع العدو، وأدرى بأسراره، ولها في صفوفه من ينقل لها تخطيطهم، كلما كان ذلك أنجح لها في تنفيذ خططها ومخططاتها [11] .. لذا أمر سيدنا أبو بكر رضي الله عنه ابنه عبد الله أن يتسمع لهما ما يقول الناس فيهما نهاره، ثم يأتيهما إذا أمسى، بما يكون في ذلك اليوم من الخبر [12] .. وقد قام عبد الله بهذا الدور خير قيام، يقول ابن حبان : (...يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام ثقف لقن، فيدلج من عندهما بسحر، فيصبح بمكة مع قريش كبائت بها، فلا يسمع أمرا يكاد به، إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام) [13] تتضح من النص عدة أمور لها أهميتها هـنا:

        - الصفات التي يمتاز بها عبد الله، فهو ثقف، أي حاذق فطن، ولقن، أي سريع الفهم، وهذه من السمات المطلوب توفرها فيمن يقوم بمثل هـذه المهمة [14] .. فالذكاء يساعده على حسن التصرف حيال [ ص: 152 ] المواقف الحرجة، التي قد تصادفه إبان القيام بمهمته، كما يساعده في استخدام الوسيلة المثلى في الحصول على المعلومة دون زيادة أو نقص، مما يجعل المعلومة التي يأتي بها تمتاز بقدر كبير من الصحة.

        - ذهابه إليهم ليلا سرا، وعودته عند السحر، يبعده عن خطر مراقبة قيادة قريش؛ لأن الظلام كما هـو معلوم ساتر مناسب لمن يقوم بمثل هـذه المهمة الحساسة، فدخول مكة سحرا، يبعد عنه شبهة الاتصال بالنبي صلى الله عليه وسلم ، فيصبح وكأنه بائت بمكة لا بالغار، وهذا قمة في الحيطة والحذر ودقة التخطيط، والمعلومات التي كان يأتي بها تجعل الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه على دراية تامة بما تفعله وستفعله قريش ، الأمر الذي يجعل تحرك الركب من الغار مبنيا على الحقائق الصحيحة لا على الظن والحدس.

        ثالثـا: إعفـاء الأثـر

        لا بد أن مجيء وذهاب عبد الله بن أبي بكر ، سيخلف وراءه آثار أقدامه، الأمر الذي ربما قاد قريشا إلى مكان ركب الهجرة، وبخاصة أن أسماء كانت هـي الأخرى تأتي يوميا إلى الغار لتحضير الطعام [15] ، وحتى يستبعد هـذا الاحتمال كان عامر بن فهيرة مولى أبي بكر الصديق رضي الله عنه ما يتبع أثرهما بالغنم كي يعفي الأثر [16] ، ونلاحظ أن إزالة الأثر عن طريق الغنم تعد أنسب وسيلة؛ لأن آثار الغنم في تلك الجبال، أمر مألوف لقريش، فلا يثير شكا ولا ريبة. [ ص: 153 ]

        رابعا: الإمداد بالتموين في الغار

        إن الإقامة في الغار ثلاثة أيام، تحتاج لزاد معد وجاهز؛ لأن أي محاولة لإشعال نار لإعداد الطعام تعتبر قرينة قوية، ربما قادت قريش إلى الغار، فالنار ينبعث منها الدخان نهارا، والضوء ليلا، وهذا يشكل خطورة كبيرة، وبخاصة في ذلك الزمان الذي يمتاز فيه العرب بدقة الملاحظة، لذا نجد أن طعامهما كان يأتيهما معدا جاهزا من بيت أبي بكر الصديق، تحضره أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما .. يقول ابن إسحاق : (وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما من الطعام إذا أمست بما يصلحهما) [17] .. كما أن عامر بن فهيرة كان يحلب لهما اللبن من غنم أبي بكر رضي الله عنه .. " تقول عائشة رضي الله عنها : (...ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم، فيريحها عليهما، حين تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل وهو لبن منحتهما ورضيفهما " [18]

        خامسا: الإقامة في الغار ثلاثة أيام

        قال ابن الأثير : (فأقاما في الغار ثلاثا) [19] ، وهذا تصرف أمني اقتضته ظروف الزمان، فالخروج إلى أي مكان في الأيام الأولى يجعلهما عرضة للوقوع في قبضة العدو، كما أن المدة الزمنية هـذه، [ ص: 154 ] ربما كانت مرتبطة ارتباطا وثيقا بالمعلومات المقدمة من عبدالله بن أبي بكر ، التي تشير إلى خفة الطلب عليهما بعد هـذه الأيام الثلاثة، كما أن الاستمرار أكثر من ذلك قد يلفت النظر من قبل قيادة قريش، حين يتكرر المرور عليهما والذهاب إليهما، من قبل أسماء وعبد الله وعامر بن فهيرة [20] .. أضف إلى ذلك أن هـذه المدة تعد كافية لتدرك قريش أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد أفلت منهم، وأنها كافية لابتعاده عنهم مسافة تمكنه من الوصول إلى مأمن، أو الالتحاق بقبيلة أخرى، فيدب اليأس في نفوسهم، ويتراخون عن مطاردته، وبالتالي تسنح الفرصة للإفلات منهم [21] .

        - فشل محاولة قريش لمنع الهجرة

        لقد بذلت قيادة قريش عدة محاولات لإفشال الهجرة ، منها : استخدامها لأسلوب التعذيب من أجل الحصول على المعلومة، كان ذلك مع علي رضي الله عنه ، والسيدة أسماء رضي الله عنها ، قامت قريش بتعذيبهما، فأنكرا علمهما بجهة رسول الله صلى الله عليه وسلم [22] ، كما أنها قامت باقتفاء أثر ركب الهجرة، حتى وصلت إلى الغار [23] .. أضف إلى ذلك لجوء قريش إلى أسلوب الإغراء المادي، فجعلت دية الحصول على ركب الهجرة مائة من الإبل [24] ، ولكن رغم هـذه الجهود المبذولة، أخفقت قريش في منع الهجرة. [ ص: 155 ] وبقي أن نشير إلى أن كتمان أسماء وعلي رضي الله عنهما الأمر، ورفضهما أن يعطيا أية معلومات عن سير رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه، كان من الأسباب التي عطلت الكفار عن اللحاق بركب الإيمان.. لقد آثرا تحمل العذاب على البوح بوجهة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه.

        وفي هـذا دروس وعبر..

        التالي السابق


        الخدمات العلمية