الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
بيان وسائل التغيير: مراتبها وآدابها

الناظر في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يجد أنه حين أوجب على من رأى منكرا أن يغيره، ذكر وسائل التغيير ومسالكه، وقد أحاط بها جامعة. ذلك أن ما يقع من عمل الإنسان، نوعان كليان :

- داخل جواني قلبي.

- خارجي براني.

وهذا الثاني ( الخارجي ) قسمان : فعل وقول، القول : أداته اللسان وما ضارعه من أدوات البيان. والفعل : أداته الجارحة كاليد وما ضاهاها مما يستخدمه الإنسان في أفعاله. [ ص: 93 ] فالتغيير إما جواني قلبي، يترتب عليه واقع سلوكي في الحياة، وإما خارجي فعلي أداته اليد وما ضاهاها، وإما خارجي قولي أداته اللسان وما ضارعه،فكان فيما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم جمعا محكما. وهو قد رتبها على نحو جامع بين النهج الصاعد من وجه، والنازل من آخر: الوجه النازل (اليد ـ اللسان ـ القلب) ناظر إلى الاستطاعة، وإلى حال المغير، ومنزلته في القيام بفريضة التغيير، فإن المغير باليد لا شك أعلى قدرة واستطاعة، فالتغيير باليد أحوج إلى مزيد من الشجاعة والمصابرة والحكمة والحزم، ثم من بعده في هـذا، التغيير باللسان، ثم من دونهم جميعا في هـذا المغير بالقلب فكان البدء بالأصعب أداء، والأشق تكليفا (التغيير باليد) ، وهو في الوقت نفسه أعلى منزلة، وأنفذ أثرا، وأسرع، وأنجع علاجا.

والوجه الصاعد في الترتيب نفسه ( اليد ـ اللسان ـ القلب ) ناظر إلى شمولية التكليف، وكثرة من يطيق أو من يصلح، فلا شك في أن التغيير باليد وما ضارعها، من يكلف به لتحقق شروطه فيه، أقل بكثير ممن يكلف بالتغيير باللسان، وكذلك من يطيق أو من يصلح للتغيير باليد، أقل ممن يطيق أو يصلح للتغيير باللسان، وأكثر ذلك عددا في هـذا التغيير بالقلب، فذلك الذي لا يعجز عنه مسلم البتة، فكل المسلمين له صالحون ما داموا أهلا للتكليف.

فالترتيب الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم ناظر في حاليه، إلى منهاجية التدرج العلمي للتغيير، وليس ناظرا إلى التدرج التربوي للنهي عن المنكر، وفرق بين تغيير المنكر والنهي عنه، فالتغيير أخص من النهي.

ومنهاجية التدرج في النهي، يبدأ فيها بالتعليم، وتأليف القلوب، واستمالتها إلى البعد عن المنكر بالحكمة والموعظة، فإن لم يجد ذلك انتقل إلى [ ص: 94 ] ما هـو أشد منه في النهي، كإظهار التجهم والإعراض عن الإكرام، فإن لم يجد، كان النهي بما هـو أشد من ذلك.

هذه مراحل تربوية في النهي عن المنكر، أما تغيير المنكر فإن المنهج يبدأ بما هـو أشد تكليفا، يبدأ المرء بالمنع باليد، فإن عجز عنه كان باللسان، فإن عجز عنه كان بالقلب، فهو تدرج ناظر إلى درجات التكليف ومراحله، وإلى مقدار استطاعة فاعله، وليس إلى قابلية التأثير في المنهي عن المنكر.

ولما كان نظرنا إلى تغيير المنكر، فإنا نعتمد التدرج المنوط باستطاعة المغير لا التدرج المنوط بقابلية القائم بالمنكر، أو الواقع فيه للتأثير.

التالي السابق


الخدمات العلمية