الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
بيان التغيير: حقيقته وشروطه

التغيير يقال على وجهين : ( أحدهما ) لتغيير صورة الشيء دون ذاته ( والثاني ) لتبديله بغيره، نحو غيرت غلامي ودابتي، إذا أبدلت بهما غيرهما.

قاله الراغب في المفردات.

فالأصل في التغيير استبدال شيء مرغوب فيه، بشيء مرغوب عنه، فهو ليس تركا وإزالة فحسب، بل يتبعهما إقامة غيره مقامه، فيكون التغيير أخص من الإزالة، وأخص من النهي عن الشيء.

والحديث قد جاء بالأمر بتغيير المنكر ( فليغيره ) ، وهو أقرب إلى معنى الإزالة إن كان موجودا قائما، وإلى المنع منه، إن شارف على الوقوع، وليس ظاهر الحديث آمرا بإزالة المنكر، وإقامة معروف مقامه، وإن كان يغلب تعاقب أحدهما الأخر، فحيث غاب المنكر، كان المعروف، وحيث غاب المعروف، كان المنكر.

وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال : ( فليغيره ) ، يهدي إلى أن تمام الفريضة وكمالها بإقامة معروف مقام ما يزال من المنكر، حتى لا ندع للمنكر مجالا للعود، فهو لم يقل: من رأى منكم منكرا فليزله،أو فليمنعه، وإنما فليغيره.

وإذا نظرنا فيما تعلق بهذا الفعل من وسائله وآلاته ( بيده، بلسانه، بقلبه ) ألفينا دلالة التغيير، تتجدد بتجدد ما تعلق بها فغير خفي، أن التغيير باليد ليس هـو التغيير باللسان، فاللسان ليس بآلة إزالة ومنع، بل هـو سبب له، وكذلك (القلب) ، ولكن ( اليد ) قد تكون آلة إزالة وتغيير حقيقي .. فحقيقة تغيير المنكر، تختلف باختلاف وسيلته، وباختلاف المنكر الذي يقع عليه ذلك التغيير، وباختلاف من يقوم بذلك التغيير. [ ص: 69 ] وللتغيير شرائط وآداب نذكر منها :

· أن يكون التغيير إيمانا واحتسابا وابتغاء لمرضاة الله عز وعلا، في تحقيق الوجود المتمكن للأمة المسلمة الفاعلة الرائدة، وليس تغييرا لعصبية قومية، أو وطنية، أو لغوية، أو حزبية، أو تحقيقا لهوى في النفس، أو موافقة لما تحب.

فهذه غايات قد يقع تغيير المنكر من أجلها، فيكون هـذا التغيير في نفسه منكرا يحتاج إلى تغيير.

أما التغيير الذي هـو عبادة، فإنما هـو الخاص لوجه الله تعالى، لا يبتغى به غيره ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ) (البينة: 5) ، والله سبحانه وتعالى ، قد بين لعباده غناه عن الشركاء في حديثه القدسي:

( أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه ) [1] .

وحين يكون هـذا التغيير احتسابا، يعين الله القائم لهذا التغيير، على الاستعداد له، استعداد قلبيا وعقليا ونفسيا وجسديا وماليا، لأن لهذا التغيير تبعات جساما وابتلاءات عظاما، لو لم يكن القائم له محتسبا وجه الله تعالى، لنكص على عقبيه أو تقاعس عن إنفاذ ما بدأ، وهذا ما يهدي إليه قوله تعالى في بعض وجوه دلالته المتكاثرة : ( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) (المائدة: 105) فإن من الاهتداء المشروط لانتفاء أضرار الضالين من يقوم بالتغيير أن يكون عملهم مخلصا لله تعالى، بل ذلك رأس الاهتداء.

*أن يكون التغيير موافقا هـدي الكتاب والسنة. ذلك أن كل عمل صالح أساسه أمران: إخلاص النية وموافقة الشرع. [ ص: 70 ] " ولهذا كان أئمة السلف ـ رحمهم الله ـ يجمعون هـذين الأصلين، كقول " الفضيل بن عياض " في قول تعالى : ( ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) ( الملك : 2 ) قال : أخلصه، وأصوبه. فقيل : يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه ؟ فقال : إن العمل إذا كان صوابا، ولم يكن خالصا، لم يقبل،وإذا كان خالصا ولم يكن صوابا، لم يقبل، حتى يكون خالصا صوابا. والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة.

وقد روى " ابن شاهين " واللالكائي ، " عن سعيد بن جبير قال: لا يقبل قول وعمل إلا بنية، ولا يقبل قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة " [2] .

وموافقة الشرع، لا تكون إلا عن علم ومعرفة، وإذا كنا قد ذكرنا ضرورة العلم بحقيقة المنكر المراد تغييره، فإن الشرط هـنا معرفة كيفية التغيير، وفقا لهدي الشريعة، وهذا يستوجب معرفة أسباب المنكر المراد تغييره معرفة كاشفة، ومعرفة آثاره العاجلة والآجلة في الأمة.

ومعرفة ما يحيط بوجود المنكر، وانتشاره في الأمة من ملابسات، وما يعين على بقائه أو تجدده، أو إغراء الناس بالانشغال به، أو التلبس والتردي فيه، أو السكوت على أهله، أو إجلالهم، أو الخوف من تغييره أو إنكاره.

ويستوجب معرفة ما يترتب على تغييره، بأي سبيل من آثار إيجابية، أو سلبية، والموازنة بين هـذه الآثار، فيما يحسن اختيار المنهج، والزمان، والمكان والمقدار، الذي هـو أنفع للأمة، عنده تغييره.

ويستوجب معرفة السبيل القويم، إلى تغيير هـذا المنكر، تغييرا نافعا، فيختار ما هـو أكثر نفعا، وأقل ضررا على الأمة، وما هـو أقدر على القيام به، وأصبر على إنفاذه [ ص: 71 ] ويستوجب معرفة منهج النبي صلى الله عليه وسلم في تغيير المنكر، وفقا لطبيعة هـذا المنكر ومنزلته في الاعتداء على حق الله تعالى، أو حق عباده، ووفقا لحال من يتلبس به، وأسباب تلبسه، وغايته من ذلك التلبس ...

إن القصور في معرفة شيء من ذلك، تكون آثاره فادحة، وإتقان معرفته تعين على حسن على القيام به.

وهذه المعرفة عمل جماعي، يتركز على الصبر والمصابرة، والتواصي بالحق والنصيحة، وحسن العزيمة، والرغبة الجموح في إتقان العمل.

إن الجهد الفردي جهد قاصر في هـذا، وهو إن لم يك عقيما، إلا أن ثمرته غير نافعة النفع المرجو من مثلها، ولذلك دعا الله عز وجل الأمة إلى الاعتصام بحبله جميعا، ونهي عن التفرق في تحقيق هـذا الاعتصام : ( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ) ( آل عمران : 103 ) فهو ما أمر بأن يعتصم كل فرد منا بحبل الله على حياله، دون اجتماع مع الآخرين. وقوله: ( ولا تفرقوا ) معناه : (ولا تعتصموا بحبله متفرقين ) ، فهو من عطف جملة على جملة، وليس عطف فعل على فعل.

وقد دعا عباده إلى التعاون على البر والتقوى: ( وتعاونوا على البر والتقوى ) (المائدة: 2) ودعاهم إلى التواصي بالحق وبالصبر: ( والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ) (العصر 1 ـ 3) .

روي عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: " لو فكر الناس كلهم في سورة العصر لكفتهم " ، وهو كما قال، فإن الله أخبر فيها أن جميع الناس خاسرون، إلا من كان في نفسه مؤمنا صالحا، ومع غيره موصيا بالحق موصيا بالصبر " [3] . [ ص: 72 ] ولم يرض الله أن يكون المسلم صادقا فحسب، بل دعاه إلى أن يكون مع الصادقين ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ) (التوبة: 119) .

هذه المعية المنبعثة من الصدق مع الله تعالى، ومن اتقائه، هـي السبيل إلى القيام بتحقيق الوجود المتمكن للأمة المسلمة، وهي التي لا ترضي الطغاة والمفسدين في الأرض، لأن فيها الوقاء من كيدهم ومكرهم.

· أن يسلك بالتغيير منهج التدرج والحكمة والحلم والرفق، ليكون ذلك أنجح وأنجع.

وأول تلك المراحل تعريف صاحب المنكر بحكم فعله وآثاره وعواقبه في الدنيا والآخرة، كل ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة.

إن أو ما بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم هـو تعليم الناس الخير، والسبيل إليه، والشر والسبيل إلى الاعتصام منه، وحث على ذلك التعلم وحمده. فإن كثيرا من العامة يقدمون على المنكر، ويتردون فيه جهالة به وظنا أنه مما لا بأس به، فإذا ما علم بالحكمة، ووعظ بالحسنى، كان أبعد عن المنكر وأنفر منه : ( ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ) (فصلت: 33) . وقد أمر الله عز وعلا أن تكون الدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة: ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ) (النحل: 125) .

ومن الدعوة إلى سبيله، تغيير المنكر. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم رءوفا رحيما بأمته، يشفق على الطائع والعاصي، وهو القائل: ( إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم... ) [4] ، وفي قصته مع الأعرابي الذي بال في مسجده القدوة والأسوة في حسن تعليم الجاهل، حين يقع في منكر. [ ص: 73 ] ( عن أنس بن مالك قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي، فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : مه مه.

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تزرموه. دعوه، فتركوه حتى بال. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم دعاه، فقال له: إن هـذه المساجد لا تصلح لشيء من هـذا البول، ولا القذر، إنما هـي لذكر الله عز وجل ـ والصلاة وقراءة القرآن أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قال: فأمر رجلا من القوم، فجاء بدلو من ماء فشنه عليه )
[5] .

وفي رواية ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه عندما زجروا الأعرابي: فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين ) [6] .

ولذلك لما تفقه الأعرابي، بما قال له الرسول صلى الله عليه وسلم ، ( قال واصفا حلم النبي صلى الله عليه وسلم ورفقه: فقام إلي ـ بأبي وأمي ـ فلم يؤنب ولم يسب ) [7] .

ما اقترفه الأعرابي منكر لا شك فيه، من وجوه كثيرة، أعلاها حرمة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، وحضرته ذلك الفعل.

وما اقترفه الأعرابي لا يحتاج العلم بأنه منكر، إلى معرفة خاصة، فالفطرة تأباه، وبرغم من ذلك، ما أنبه النبي صلى الله عليه وسلم ، وما سبه، بل وما غضب، بل كان الرفيق الرحيم، وقد علم أصحابه والأمة، وهداها بهذا ( وبقوله: إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه ) [8] . [ ص: 74 ]

وقد ( قال لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، حين غضبت من قولة اليهود له صلى الله عليه وسلم : السام عليكم: فقالت: وعليكم السام واللعنة، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مهلا يا عائشة ، إن الله يحب الرفق في الأمر كله " ، فقلت: يا رسول الله، أولم تسمع ما قالوا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد قلت: وعليكم ) [9] .

( وعن أبي أمامة قال: إن فتى شابا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ائذن لي في الزنا. فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه، مه. فقال: ادنه، فدنا منه قريبا، قال: فجلس، قال: أتحبه لأمك؟ قال: لا، والله، جعلني الله فداءك.

قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم.

قال: أتحبه لابنتك؟ قال: لا، والله، يا رسول الله جعلني الله فداءك.

قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم.

قال: أتحبه لأختك؟ قال: لا، والله، جعلني الله فداءاك.

قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم.

قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا، والله، جعلني الله فداءاك.

قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم.

قال: أفتحبه لخالتك؟ قال: لا، والله، جعلني الله فداءاك.

قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم.

قال: فوضع يده عليه، وقال: اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه فلم يكن بعد ذلك الفتى يلفت إلى شيء )
[10] .

أي منكر هـذا الذي يستأذن فيه الفتى؟ وأي منكر يكون ذلك الاستئذان من سيد الأنبياء؟ إنه لمنكر جد عظيم، لا يملك أحد غير النبي صلى الله عليه وسلم إزاءه ذرة من [ ص: 75 ] حلم ورفق، ولكنه صلى الله عليه وسلم الرءوف الرحيم، الذي بلغ في موقفه هـذا وكثير غيره، حد الإعجاز لكل ما عداه من الخلق، أن يبلغ ما بلغ في هـذا الحلم والصبر الجميل.

وليس الرفق والحلم في تغيير المنكر، بذاهب بصاحبه إلى المداهنة والمصانعة حين يعتدى بذلك عمدا على حق من حقوق الله تعالى، أو حقوق عباده، بل يكون ذلك حينذاك الحزم والحسم والغضبة لله رب العالمين.

( عن عروة بن الزبير ، عن عائشة ـ زوج النبي ـ صلى الله عليه وسلم : أن قريشا أهمهم شأن المرأة التي سرقت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح ، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد ، حب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكلمه فيها أسامة بن زيد، فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال أتشفع في حد من حدود الله ؟ فقال له أسامة: استغفر لي يا رسول الله. فلما كان العشي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختطب، فأثنى على الله بما هـو أهله، ثم قال:

أما بعد، فإنما أهلك الذين من قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. وإني ـ والذي نفسي بيده ـ لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها، ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت، فقطعت يدها.

قال يونس : قال ابن شهاب ، قال عروة : قالت عائشة : فحسنت توبتها بعد، وتزوجت، وكانت تأتيني بعد ذلك، فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم )
، متفق عليه، والنص لمسلم [11] .

كذلك الرفق، وكذلك الحزم في تغيير المنكر، كل في موضعه الذي هـو به أليق وأكرم وأجدى وأنفع. [ ص: 76 ] ومما يدخل في باب الرفق والحكمة في هـذا، ألا يكون ذلك مواجهة ومصارحة في ملأ من الناس، فإنها حينذاك تشهير لا تذكير. يقول الإمام الشافعي : من وعظ أخاه سرا فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه [12] .

وقد جعل الله من عقوبة من عيره أخاه بذنب، أن يقع فيه : " من عير أخاه بذنب لم يمت حتى يعمله " [13]

، وذلك إذا لم يكن صاحب المنكر مجاهرا مفتخرا، به متخذا فعله رسالة حياته، كمثل الماسونيين والعلمانيين والماركسيين وغيرهم من المرجفين المحاربين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فمن كان كذلك فقد وجب تغيير منكره، ودفعه علانية، وفضح أمره وأفاعيله وصنائعه السوء والإرجاف وإشاعة الفاحشة والسوأى، فإن الله عز وعلا حرم المجاهرين عفوه:

( عن أبي هـريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا، وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه ) [14] .

فإذا ما كان هـذا حال من جاهر على هـذا النحو، فكيف بحال من لا يفعلها بليل، بل يفعلها جهارا نهارا، ويتخذها فخارا ومنهج حياة؟ أولئك أولى بالحرمان من عفو الله، وأولى بفضح أمرهم للناس، حتى يعرف الناس صنيعهم فيحذروا وينكروا. [ ص: 77 ] فالحكمة في تغيير منكر مثل هـؤلاء المجاهرين بالمنكر المفاخرين بفعله،والدعوة إليه، الغلظة في وجوههم، والتصريح بأسمائهم وأوصافهم وأفعالهم، وبمن يناصرهم، أو يسكت عن باطلهم، حتى يكشف حالهم، فلا يخدع الناس بمكرهم، وزائف فكرهم، وزخرف قولهم، وباطل مذهبهم.

وهم ـ خداعا وزورا ـ ينعقون في محافلهم العامة، ومناشيرهم السيارة، أنهم مسلمون موحدون ملتزمون بصحيح الإسلام، وأن من خالفهم إنما هـو الذي يدعو الناس إلى عبادة الله بآراء خلقه، لا بهدي كتابه، كذلك يزعمون، وينادون أن الإسلام قد عصم دماءهم وأعراضهم وأموالهم، بلا إله إلا الله، وأنهم يقولونها، فلا تحل دماؤهم وأعراضهم.

ذلك ديدن المنافقين من الماسونيين والعلمانيين والماركسيين ، فذلك دعامة " السلولية " التي اتخذوها عقيدة من دون الإسلام. فإذا ما تخفى أولئك تحت ادعاء قول " لا إله إلا الله " فإن هـذه ليست كلمات تقال فحسب، وإلا لما قاتلت " قريش " النبي صلى الله عليه وسلم ، حين طالبهم بها، إنما هـي منهاج حياة ورسالة وجود، لها مقتضياتها وحقوقها، وواجباتها. وفي حياة كل قائل لها آيات ظاهرة على تمكنها من قلبه واستقرارها فيه، فيكون المسلم المعصوم بها دمه وماله وعرضه، أو يكون في حياته ناقضات لمعنى " لا إله إلا الله " ومنهجها ورسالتها، فتكون تلك الآيات القاطعات بأنه ليس الذي يعصم بها دمه وماله وعرضه.

كل قائل " لا إله إلا الله " عليه أن يعرض نفسه ومنهج حياته وحركته في الأرض على مقتضيات تمكن " لا إله إلا الله " من قلبه أو ناقضاتها.

هل يعصم قول : " لا إله إلا الله " من يطعن في كتاب الله، ومن يدعو إلى التحرر من سلطة القرآن، بل من سلطان الله، ومن لا يرضيه أن تكون علاقته بالله علاقة عبد بسيده لأنه لا يحب الإذعان ؟ [ ص: 78 ] وهل يعصم قول : " لا إله إلا الله " من يستهزئون بالرسول والسنة والصحابة، كمن يستهزئ من التيمم بالتراب عند نقض الوضوء لذي عذر، ويستهزئ بالوضوء بغسل اليدين والوجه ... إلخ لمن خرج منه ريح، ويتساءل ما علاقة ذلك بوجهه ويديه، ألا يكفي غسل محل خروج الريح ؟

وهل يعصم قول : " لا إله إلا الله " ، دم وعرض ومال من يزعم أن بعض أحكام الشريعة الثابتة بالكتاب والسنة، إنما هـي رجعية وعادات بدوية لا تليق بالحياة المعاصرة، وأن القرآن والسنة لا يصلحان في القرن العشرين أن يحتكم إليهما في حياتنا السياسية والاجتماعية ؟

وهل يعصم قول: " لا إله إلا الله " ، دم وعرض ومال من يعلن صراحة أنه ضد الحكم بما أنزل الله ؟

أيتفق ادعاء الإسلام، مع كل هـذه الناقضات معنى " لا إله إلا الله " ، من قلوب أصحاب هـذه الأقاويل والدعاوى؟

ويتعلق أولئك المرجفون في المدينة بحديث سيدنا " أسامة بن زيد " الذي رواه الإمام " مسلم " الذي ( يقول فيه سيدنا " أسامة " :

بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة، فأدركت رجلا: فقال: لا إله إلا الله، فطعنته، فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أقال لا إله إلا الله وقتلته؟.

قال: قلت يا رسول، إنما قالها خوفا من السلاح.

قال: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟.

فما زال يكررها حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ )
[15] . [ ص: 79 ]

وإذا كان أولئك لا يتعلقون بالسنة إلا حين يرون فيها ما ينفعهم في تنفيذ مخططهم " السلولي " فإن تعلقهم بحديث " أسامة " غير نافع لهم.

وكل عاقل يقرأ الحديث قراءة مسلمة، يجد أن حالهم لا يتفق مع حال الرجل الذي طعنه " أسامة " فقتله.

الرجل الذي قتله " أسامة " بعد قول " لا أله إلا الله " لم يظهر منه لسيدنا " أسامة " بعد قولها ما ينقضها، من قول أو عمل، فكان على سيدنا " أسامة " أن يعصم دمه بها، حتى يقع منه ما ينقضها قولا أو فعلا، ولذلك ( قال له الرسول صلى الله عليه وسلم : أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟ ) ، أي أقالها خوفا من السلاح، وما يزال على ما كان عليه قبلها، أم قالها اعتقادا جازما، فلو أنه بدا من الرجل ما يجعل أسامة يوقن أنه قالها خوفا، ما أنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم قتله بعد قوله: " لا إله إلا الله " ، لأنها ستكون مقالة خادعة.

والماسونيون والماركسيون والعلمانيون ، وكل المرجفين في المدينة، لا يكفون عن قول وفعل ما ينقض قولهم : " لا إله إلا الله " نقضا لا يبقي ولا يذر، فجميع أحوالهم التي يعيثون بها في الأرض فسادا، تنادي صباح مساء أنهم إنما يقولون: " لا إله إلا الله " تقية وخديعة، وأن هـم في هـذا كمثل الذين قال الله تعالى فيهم : ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون ) (البقرة: 14) .

( وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون ) (آل عمران: 72) .

فمثل أولئك، الحكمة كل الحكمة في تغيير منكرهم، كشف أقاويلهم وأفاعيلهم مقرونة بها أسماؤهم وأوصافهم ومواقعهم في الحياة الثقافية والقيادية، [ ص: 80 ] وبيان أباطيلهم، وما يرمون به إليه من إفساد في الأرض، وحب لإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، حتى يعرف الناس حقيقتهم، فلا يخدعون بمعسول قولهم وزخرفهم، فإن لكثير منهم فصاحة لسان تسبي قلوب وعقول الدهماء، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من أمثالهم.

( عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان ) [16] .

( وعن أبي هـريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من تعلم صرف الكلام ليسبي قلوب الرجال أو الناس لم يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا ) [17] .

وإن من ألزم ما يحمله أهل العلم وطلابه من فرائض، الوقوف على حقيقة مذاهب العلمانيين والماسونيين ، والماركسيين ، ومن شايعهم، والاجتهاد في فحصها وسبر أغوارها ودفائنها، وخبئ مراميها، ونقض ما فيها من دعاوى باطلة وأقاويل فاسقة.

إن حسن الظن بأمثالهم يردي في مهاويهم، فالمؤمن كيس فطن، لا يلدغ من جحر مرتين.

وإن الحكمة في أمثالهم، الاستماع إلى قول الشاعر:

والجهل إن تلقه بالحلم ضقت به ذرعا وإن تلقه بالجهل ينحسم

[ ص: 81 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية