الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
فاصلة القول

إذا ما كان جليا أن تغيير المنكر إنما هـو لدرء المفاسد، كيما يتحقق الوجود المتمكن للأمة المسلمة، فإنه إذا ما تيقن المسلم، أو غلب على ظنه الراشد، أن تغييره منكرا سوف يترتب عليه وقوع منكر أعم، أو أبقى أو أنكى أثرا، فجمهور أهل العلم يذهبون إلى ترك تغيير ذلك المنكر إلى الأدنى، دفعا لوقوع ما هـو فوقه.

يقول " ابن القيم " : إذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هـو أنكر منه، وأبغض إلى الله ورسوله، فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم، فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر

ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار، رآها من إضاعة هـذا الأصل، وعدم الصبر على منكر، فطلب إزالته، فتولد منه ما هـو أكبر منه، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة، وصارت دار إسلام، عزم على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم، ومنعه من ذلك مع قدرته عليه، خشية وقوع ما هـو أعظم منه من عدم احتمال [ ص: 129 ] قريش لذلك، لقرب عهدهم بالإسلام، وكونهم حديثي عهد بكفر،ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد، لما يترتب عليه من وقوع ما هـو أعظم منه ... فإنكار المنكر أربع درجات :

( الأولى ) أن يزول ويخلفه ضده.

( الثانية ) أن يقل وإن لم يزل بجملته.

(الثالثة ) أن يخلفه ما هـو مثله.

( الرابعة ) أن يخلفه ما هـو شر منه.

فالدرجتان الأوليان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة " [1] .

وتقدير درجات المنكر في حادثات الحياة ونوازلها، وما بينها من مراتب، بحاجة إلى بصيرة نافذة في دقائق فقه الدين، وفي فقه نوازل الحياة، الذي هـو أساس فقه التدين، وبحاجة أيضا إلى الحكمة البالغة، وإخلاص النصح في تحقيق ما اشتبه، وتحرير ما اشتجر، وذلك جهد بالغ لا يقوم به إلا صفوة أهل العلم.

يقول الإمام ابن تيمية : " اعتبار مقادر المصالح والمفاسد هـو بميزان الشريعة، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص، لم يعدل عنها،وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، وقل أن تعوز النصوص من يكون خبيرا لها وبدلالتها على الأحكام.

وعلى هـذا إذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروف ومنكر، بحيث [ ص: 130 ] لا يفرقون بينهما، بل إما أن يفعلوهما جميعا، أو يتركونهما جميعا، لم يجز أن يؤمروا بمعروف ولا أن ينهوا عن منكر، بل ينظر، فإن كان المعروف أكثر، أمر به، وإن استلزم ما هـو دونه من المنكر،ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه، بل يكون النهي حينئذ من باب الصد عن سبيل الله والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله،وزوال فعل الحسنات .. وإن كان المنكر أغلب،نهي عنه،وإن استلزم فوات ما هـو دونه من المعروف، ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه،أمرا بمنكر، وسعيا في معصية الله ورسوله.

وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان، لم يؤمر بهما، ولم ينه عنهما، فتارة يصلح الأمر، وتارة يصلح النهي، وتارة لا يصلح لا أمر ولا نهي، حيث كان المعروف والمنكر متلازمين، وذلك في الأمور المعينة الواقعة ... ...

وهذا باب واسع ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ومن هـذا الباب : إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبي ، وأمثاله من أئمة النفاق والفجور، لما لهم من أعوان، فإزالة منكره بنوع من عقابه،مستلزمة إزالة معروف أكثر من ذلك، بغضب من قومه وحميتهم، وبنفور الناس إذا سمعوا أن " محمدا يقتل أصحابه " [2] .

( ومن ذلك حين قال عبد الله بن أبي في غزاة سكع فيها رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار فتناصرا : فعلوها ؟ أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقام عمر فقال : يا رسول الله، دعني أضرب عنق هـذا المنافق. [ ص: 131 ] فقال النبي صلى الله عليه وسلم : دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ) ( متفق عليه ) [3] . فتلك حكمة النبوة التي يجب أن يتأسى بها القائمون بتغيير المنكر، ولهذا " قال عمر رضي الله عنه بعد أن استبان له نور الحكمة النبوية في هـذا :

قد ـ والله ـ علمت لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري " [4] .

ومن ثم فإن تغيير المنكر المترتب على تغييره آثار فردية أو جماعية، لا يستقيم القيام به إلا من بعد مراجعة ملابساته ومساقاته، والموازنة بينه وبين آثاره، وهذا يقتضي استشارة أهل العلم والحكمة، فكثيرا ما يتوقف الطبيب عن معالجة داء ما خشية ما سوف يترتب على معالجته دوائيا أو جراحيا من أدواء وآثار أفدح، إلى أن تتهيأ الظروف والملابسات لمعالجته دونما آثار ضارة، وكذلك مغير المنكر يحتاج إلى الحكمة في هـذا أكثر من احتياج الطبيب، فإن ما يترتب على غفلة الطبيب في هـذا، أقل ضررا مما قد يترتب على غفلة المغير للمنكر .. ولا أحسب أن أحدا يتهم مثل ذلك الطبيب بالتقصير أو الخيانة أو الإفراط في القيام بواجبه حينئذ، بل هـو بوصف الحكيم النطاسي: أجدر وأحق .. وكذلك ينبغي ألا يتهم العامة والدهماء، علماء الأمة حين يوصون بالصبر على ذلك المنكر، حتى تتهيأ له الظروف ومناخات وملابسات ومساقات أفضل، يؤتي التغيير فيها [ ص: 132 ] ثمرا أطيب وأعظم، وهذا وجه من وجوه المعنى القرآني في قوله تعالى : ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة ) (النحل: 125) ، وفي قوله تعالى: ( قل هـذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين ) (يوسف: 108) .

فالحكمة والبصيرة، دعامتا النجاح في القيام بتغيير المنكر، قياما يرضي الله عز وعلا، ويحقق الغاية من التكليف به.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.

والحمد لله رب العالمين. [ ص: 133 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية