الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ثالثا: التراث العلمي في علم الاجتماع

لا يمكن أن يقوم علم الاجتماع الإسلامي بمعزل عن التراث العالمي في هـذا العلم. فكثير من الأبحاث والدراسات في علم الاجتماع تبحث عن الحق وتتلمسه، وليس من الفائدة في شيء أن ترفض مثل هـذه الأبحاث. وإنما الذي يرفض من علم الاجتماع دون تردد، هـو الأيديولوجيات، والفلسفات، والخلفيات العقائدية، التي تشكل أطرا لهذا العلم. ويرفض أيضا كل ما هـو من خصوصيات العرب، التي تمثل معاناته التاريخية، وردود فعله على عصوره الوسيطة، ومواجهته لتعسف الكنيسة ونسقها، [ ص: 151 ] وقهر اللاهوت والميتافيزيقا ، إلى غير ذلك من الهموم التي عاشها، ولسنا في حاجة إلى أن يصدرها إلينا لتضاف إلى هـمومنا [1] .

والحقيقة، أن مجيء علم الاجتماع ملتصقا بهذه الفلسفات والعقائد، دفع الكثير من المسلمين إلى الإعراض عنه - حاله حل باقي العلوم الاجتماعية- والحكم عليه بأن لا فائدة ترجى من ورائه [2] . وهذا حكم ظالم، وموقف خاطئ مبني على الوهم لا على العلم، تسبب فيه ارتباط هـذا العلم بتلك الفلسفات المعادية للدين. وهو موقف ينطبق عليه نظرية الغزالي في سبق الوهم إلى العكس حيث قال: " ومن هـذا نفرة الملدوغ من الحبل المرقش ... ولكن خلقت النفوس مطيعة الأوهام، وإن كانت كاذبة، حتى إن الطبع لينفر من حسناء سميت باسم اليهود . والنفرة من المذاهب، إذا نسبت إلى من يسيء الاعتقاد فيهم، ليست طبعا للعوام خاصة، بل طبع أكثر العقلاء والمتسمين بالعلوم، إلا العلماء الراسخين الذين أراهم الله الحق حقا وقواهم على اتباعه " [3] .

فنفرة المسلمين من علم الاجتماع تشبه نفرة الملدوغ من الحبل المرقش؛ وذلك لأنهم يرونه أحيانا معارضا للدين، مما أدى إلى فقدان الثقة فيه. والحق أن واجب عالم الاجتماع المسلم تجاه التراث العالمي هـو التفاعل معه، على ضوء موقفه النظري الإسلامي، فما وافق موقفه قبله، وما خالفه رفضه وانتقده انتقاد توجيه وإصلاح. إن التراث العالمي يخضع [ ص: 152 ] للمبدأ الذي جسده الحديث النبوي الشريف ( الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها )

[4] .. و " لا شك أنه ليس من مصلحتنا العلمية أن نرفض علما أو حكمة ما، لكون صاحبها غير مسلم، أو غير ملتزم بالقيم والمثل التي نفترض توافرها في الدراسات الاجتماعية، وإننا لن نرفض التراث العالمي جملة، ولكننا لن نقبله جملة أيضا، وإنما سوف نتفاعل معه على أساس من معايير أو مقاييس تساعدنا على أن نقوم، وننقد،ونتفاعل، ونختار من هـذا التراث الذي يمثل التراث الإنساني. " [5] . وهذا بالضبط هـو موقفنا من نظريات وآراء مفكري ومؤسسي علم الاجتماع الغربيين.

وهناك فروع كثيرة من علم الاجتماع لا بد من بناء الإضافة الإسلامية فيها على التراث العالمي الموجود؛ لأنها تشكل معرفة تراكمية وعالمية، تزداد يوما بعد يوم، ومن الخطأ مطالبة علم الاجتماع الإسلامي بالبدء من الصفر، في مثل هـذه المواضيع، ولا بد بالطبع من الانتباه إلى ما هـو من خصوصيات المجتمع الغربي.. ومن أمثلة هـذه الفروع : علم الاجتماع الصناعي، وعلم الاجتماع الطبي، وعلم الاجتماع التنظيمي، وعلم اجتماع المهن، وعلم الاجتماع الريفي، وعلم الاجتماع الحضري، وغيرها من الفروع المتعلقة بالجانب الميداني.

ولعل أهم جانب يستفيده علم الاجتماع الإسلامي من التراث العالمي [ ص: 153 ] هو جانب مناهج البحث، التي تبدأ بحركة التوثيق سواء كان مكتبيا أو ميدانيا، وتنتهي بالتفسير والتخريج والإجابة عن تساؤلات البحث.

إن الشروط العلمية لأي بحث، والمتعلقة بالنزاهة والأمانة، وطلب الحق والصدق، والبعد عن الهوى، كان للمسلمين فضل كبير في احترامها، والتنبيه إليها. وقد حاولت مناهج البحث الحديثة تجسيدها في شكل أدوات تعين على تقليل الخطأ. وذلك كالتأكيد على استخدام الملاحظة والإحصاء والاستبيانات، واختيار العينات، أو المقابلة، والمعايشة، والمقارنة، وهذه كلها أدوات يستعين بها علم الاجتماع الإسلامي، فهي تمثل قاسما مشتركا بين جميع البحوث أينما أجريت، " لأن قواعد المنهاجية العامة لا تحتاج إلى أقلمة خاصة، أو تطويع ما حسب المجتمع المبحوث فيه، أو وضعية الباحث، فهي من العناصر الشائعة التي يختار بينها، حسب الظروف والإمكانيات " [6] فهي تهدف إلى تسهيل الإجراءات، وتحديد المشكلة المعنية، وإعطاء نتائج قريبة من الصحة أو صحيحة.

ومع ذلك فإن طرق البحث ومناهجه، لا تخلو من شوائب تحتاج إلى تطهير وانتقاء: وهذه الشوائب لا تمس صلب هـذه المناهج، ولكنها تتعلق " بما حولها، أو ما تستخدمه من كلمات وعبارات مختلفة، ومفاهيم " وفرضيات قد لا تتلاءم مع أوضاع المجتمعات الإسلامية، وهذا هـو الذي أدى بالكثير من الباحثين إلى أن يكرسوا " أوقاتا ثمينة وجهودا طائلة في بحوث منطلقها غير وارد، فنراهم يحصلون الحاصل، ويلهثون لإثبات بدهيات ثابتة منذ عهد بعيد، أو ينقلون استنتاجات قد تكون تحققت فعلا [ ص: 154 ] في مجمعات أخرى، لكن في ظروف مغايرة.. فتراهم يتفانون في تدقيق بعض المصطلحات، ويسلطونها من أعلى على أوضاع مجتمعاتهم، والحال أن تلك المفاهيم.. وليدة المجتمع الأوروبي المسيحي، واستخدامها باسم كونية المعرفة العلمية غير وارد، وغير مشروع؛ لأنها لم تأخذ بعين الاعتبار كل الأوضاع الممكنة إنسانيا، ولكن البعض منها فقط.. ولذا نلاحظ أن عديدا من الأبحاث لا مبرر لها، سوى إرادة إثبات صحة النظرية الماركسية، أو البنيوية، فتكون بمثابة تصريف النظريات على حساب المنهاجية " [7] .

إن استخدام مفاهيم منقولة من مجتمع إلى مجتمع آخر، يعني في الوقت نفسه إسقاط جزء من تاريخ المجتمع، الذي نبتت فيه هـذه المفاهيم على المجتمع الذي نقلت إليه، وربما يكون هـذا المجتمع لم يمر أبدا بما مر به المجتمع الأول.. مما يعني تشويه الواقع. فالمفهوم، ليس عبارة عن لفظ محايد وبريء، ولكنه لفظ نبت تحت ظروف معينة، ومنغمس في العقائد، وقد يكون له تاريخ طويل، فهو ليس بريئا البته. فلو استخدم باحث المفاهيم التالية: علاقات الإنتاج الأبوية، البدائية، العبودية، الإقطاع، الأرستقراطية التجارية، الجماهير، الصراع الطبقي، المادية وسائل الإنتاج، ثم حاول تطبيقها على الاجتماع الإسلامي في فترة معينة؛ لأدى به ذلك إلى قلب الحقائق تماما، واختراع مجتمع لم يره تاريخ المسلمين في يوم مما. ولا ريب أنه سيكون أقرب إلى المجتمع الأوروبي، الذي نبتت فيه مثل هـذه المفاهيم. [ ص: 155 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية