الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
الهدف الثالث

يهدف علم الاجتماع الإسلامي إلي وضع الخطط المستقبلية، وإيجاد الوسائل والسبل، التي تكفل سير المجتمعات الإسلامية المعاصرة في حدود مبادئ الإسلام، وتقلل من ابتعادها عنه.

ويعني هـذا الهدف مواجهة التغييرات التي تطرأ على المجتمعات الإسلامية، وذلك باعتماد التغيير الاجتماعي المخطط، الذي يسير وفق خطط مدروسة، وموضوعة بعناية.

إن أي مجتمع لا بد أن يتغير، حيث إن التغير سنة من سنن الحياة، وإذا سلمنا بوقوع التغير، فلا بد أن نتأكد من أنه لا يتعدى حدود الإسلام، ولا بد من إيجاد الوسائل والسبل، التي تقلل من ابتعاد المجتمع عن النموذج الإسلامي. [ ص: 122 ]

وهذا يتطلب من عالم الاجتماع المسلم، مواجهة كم كبير من المشاكل الأساسية في المجتمعات الإسلامية، ويأتي في مقدمتها قضايا التنمية. فكل الحكومات الإسلامية، تحاول جاهدة الخروج من حالة التخلف، التي تعيش فيها، وقد اتبعت كل منها أحد الطريقين الرئيسين في هـذا العصر، وهما الطريق الرأسمالي ، أو الطريق الاشتراكي . ومع أن التنمية تسير في هـذه الدول بخطى حثيثة منذ قرابة ربع قرن، إلا أن مشكلة التخلف لم تختف حتى الآن، بل إنها تزداد يوما بعد يوم، " فالدول التي تتبع نظام التنمية الرأسمالية في العالم الإسلامي، هـي دول غارقة في الديون بصورة مخيفة، ذلك أنها تشتري أساليب التصنيع الغربي بأسعار مرتفعة جدا، وتكاليف باهظة. أما الدول الإسلامية التي تتبع النظام الاشتراكي، فإنها تعاني من العجز البيروقراطي والتسلط، الذي تمخض عنه تبديد الموارد الوطنية، وغرس الإحساس بالغربة بين العمال. ونتيجة لهذا، فإن الاستقلال السياسي الذي حصلت عليه هـذه الدول بشق الأنفس، بعد سيطرة أجنبية طويلة، يضيع ويفقد بسبب التبعية الاقتصادية، التي لم تؤت ثمارها بعد " [1] .

ولعل أفضل ما يصف نتائج التنمية التي اتبعت في الدول الإسلامية، هـو التقرير الرسمي الذي قدمه أمين الجامعة العربية إلى المجلس الاقتصادي والاجتماعي العربي. وتجربة الدول العربية لا تختلف عن تجربة الدول الإسلامية غير العربية. وهذه مقتطفات من هـذا التقرير [2] :

" لقد كان للطموح العربي إلى التقدم السريع، أثره في زيادة الاعتماد على السوق الدولية، وتنامي ظاهرة العلاقة غير المكافئة على حساب [ ص: 123 ] التكامل القومي المتوازن. وحسبنا هـنا أن نشير إلى بعض الدلالات الاقتصادية التي قد تبدو بسيطة في ظاهرها، ولكنها بليغة في مغزاها: إن 70% من المواطنين العرب لا يزالون يعانون من الأمية، وما زال أكثر من نصف المجتمع العربي، يشكو من العناية الصحية وما زال الوطن العربي يعتمد على الخارج للحصول على أقصى من نصف حاجته من الغذاء، ولا يستخدم إلا عشر قواه البشرية في وقت يتزايد فيه اعتماده على اليد العاملة الأجنبية. وفي الوقت ذاته يشكو من نزيف حاد في طاقاته العلمية والتقنية " . وبعد أن ذكر التقرير أرقاما عن انخفاض الإنتاج الزراعي، قال: ولم تأت الصحوة في المنطقة العربية إلا في بداية الثمانينيات، لتبرز هـذه الحقيقة الفاجعة، وهي: أنها اليوم، وبالقياس إلى الدول النامية، أبعد مناطق العالم تخلفا من حيث الإنتاجية، وأبلغها عجزا غذائيا، وأكثرها انغماسا في التبعية، وبالتالي أسرعنا تأثرا بالأزمة العالمية الغذائية، ولم يعد خافيا على أحد، أن سلاح الغذاء هـو اليوم من أخطر الأسلحة، وأشدها تعقيدا لحرية القرار الاقتصادي والسياسي، بحكم طبيعة إنتاج الأغذية وأسواقها، التي تهيمن عليها قلة احتكارية، لم تتردد في التلويح بإمكان استخدام هـذا السلاح لتنفيذ سياستها الخارجية.

وعلى الرغم من أن هـذا التقرير يثبت فشل اتجاهات التنمية الخالية، التي تعتمد على التغريب بشقيه الماركسي والرأسمالي، إلا أن أغلب علماء الاجتماع لا يعدمون تبريرا المثل هـذا الفشل ويشاركون بذلك في عملية التنمية المزيفة. فمثلا كثيرا ما نسمع عن أن النمو السكاني المتزايد يساهم بشكل كبير في إفشال مجهودات التنمية. والحقيقة أن هـذه دعوى زائفة " فالدول الإسلامية ككل، تجمع بين معدلات النمو السكاني المنخفضة مثل " تركيا " ، ومعدلات النمو السكاني المرتفع [ ص: 124 ] " مثل مصر وبنجلاديش " ، وإذا كانت مصر وبنجلاديش حالة سيئة في مجال النمو، فإن الوضع في تركيا التي تنهج نهجا غربيا لا تبشر بأي تقدم في هـذا المجال أيضا، بل إن الواقع هـو أن الديون الأجنبية قد أثقلت الاقتصاد التركي، وجعلته اقتصادا مريضا شأنه في ذلك شأن اقتصاد بنجلاديش " [3] .

ويتغاضى كثير من علماء الاجتماع، عن الهدف الأساس الذي يوجه عمليات التنمية في الدول الإسلامية، حيث كان التركيز فقط على النواحي المادية من التنمية، وأهملت النواحي الروحية إهمالا كاملا، وهذا أمر طبيعي ما دامت الدول الإسلامية تسير في الطريق الرأسمالي ، أو الماركسي . والحقيقة أنه مهما بلغ التقدم المادي، فإنه يظل ناقصا، ولا يمكن أن يشبع حاجة الإنسان، ما لم يواكبه إشباع لمطلب الإنسان الروحية. " فأي جهد يخلو من إرضاء الجانب الروحي في الإنسان " لا يخلف وراءه إلا إحساس بعدم الرضا، رغم كل مظاهر التقدم المادي، التي يمكن تحقيقها [4] . وغياب البعد الروحي، أحد أهم الأسباب، التي أدت إلى تعثر عمليات التنمية في العالم الإسلامي، فلا يمكن قيام تنمية متقدمة باستمرار، ما لم يمكن مجتمع التنمية نفسه " متمتعا بالحساسية الأخلاقية النابعة من أداء الواجب؛ لأنه واجب، ومراعاة الضمير، والبعد عن السلبيات العديدة، التي تنخر في عملية التنمية نخر السوس في العظام المتهالكة، كالانتهازية، والأنانية، والوصولية، والرشوة، وعدم تقدير المسئولية، والبحث عن الثراء الحرام، فهي سلبيات لا يمكن أن تتحقق معها تنمية مجتمع ما مهما توافرت له سائر العناصر الاقتصادية والاجتماعية " [5] .. [ ص: 125 ]

ونظرا لأن عمليات التنمية في الدول الإسلامية لم تعط الجوانب الروحية في الإنسان أي اهتمم، فإن السلبيات السابقة، تجمعت في الشعوب الإسلامية، لتكون أهم العوائق في وجه التنمية. ولفرط وجود عنصر الفساد في كثير من الدول الإسلامية، وغيرها، فقد أطلق عليها تعبير الدول " الهشة " ، فهناك عدد لا بأس به من الدول الإسلامية في يومنا هـذا تتفشى فيها الرشوة، والاختلاس، والغش في الأموال الحكومية في صورة مرتبات وهمية، ونفقات سفر لكبار الموظفين، بين الأمور غير الواضحة للعيان، تصبح الرشوة أمرا علنيا، بعيدا عن السرية، ونتيجة لهذا الوضع فإن الحصول على خدمات غير قانونية.. يعتبر أمرا سهلا بعد تقديم الرشاوى. أما الأعمال الهامة والمشروعة، فإنها تعرقل وتؤجل إلى ما لا نهاية، إذا لم يتقاض الموظفون المعينون الرشاوى [6] .

إن التنمية التي ينشدها الإسلام هـي التي توازن بين مطالب الإنسان المادية والروحية، وتكون منطلقة من الإسلام نفسه، وبذلك تتجنب الانغماس في المادية، كما أنها لا تتطرف تطرفا روحيا كما تطرقت الهندوسية، والبوذية. ورهبان المسيحية، وبعض الصوفية من المسلمين. وتستهدف مثل هـذه التنمية: " إقامة مجتمع يعتمد في بنائه على وجود بيئة سياسية واقتصادية واجتماعية، تغذي مطالب الإنسان المادية والروحية على حد سواء [7] .

والحقيقة أن قضية التنمية تقود إلى قضايا أخرى، مثل قضية التجزئة، [ ص: 126 ] وهي العملية التي فرضها الأعداء على الأمة الإسلامية، وقسمت على ضوئها إلى دويلات كثيرة، بحيث يسهل السيطرة عليها. وهي السياسة المعروفة بسياسة فرق تسد. والدول الإسلامية الآن تفقد أي نوع من أنواع التكامل بينها، بل إن العلاقات فيما بينها كثيرا ما يشوبها التوتر، بل والنزاع بسبب الخلاف على الحدود، أو نتيجة سياسة معينة. وهذا أمر يزيد من ضعف الأمة الإسلامية، ويحرمها استخدام إمكانيتها كاملة، وقد حدث هـذا بعد أن كانت الدولة الإسلامية واحدة، تعيش في ظل الخلافة، وتحكم الشرع [8] .

ويتطلب الوضع الحالي من عالم الاجتماع المسلم، دراسة عميقة يبتعها وضع الخطط المستقبلية، التي تكفل التكامل بين الدول الإسلامية، في جميع المجالات، بحيث يؤدي ذلك إلى وحدة القرار، ووحدة السياسة، والتكافل والتكامل الاقتصادي، وغيره.

ولكي يضمن عالم الاجتماع المسلم أن يكون التغير الاجتماعي لا يخرج عن الإسلام؛ فإنه لا بد له من تخطيط شامل على كل المستويات يستهدف أمرين، هـما:

(أ) التخطيط الداخلي: وهو عبارة عن الجهود المبذولة لتطوير المؤسسات الاجتماعية، والحفاظ عليها في داخل الأمة الإسلامية ذاتها.

(ب) التخطيط الخارجي: ويستهدف نشر الإسلام عن طريق الدعوة بين المجتمعات والأفراد التي لا تدين بالإسلام [9] .. [ ص: 127 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية