الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
التعامل مع الواقع الأليم يضيق كثير من مسلمي العصر مفهوم (العبادات) فيقصرونه على إقامة الشعائر، أما (المعاملات) وهي جماع النشاطات الحياتية في هـذه الدنيا الفانية فلا ترقى في مستويات اهتمامهم إلي منزلة العبادات، مع أنها التطبيق العملي للإيمان الواعي الذي وقر في القلب وصدقه العمل، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم : الدين المعاملة.

العبادات في الإسلام أوسع وأشمل مفهوما وإطارا، فكل عمل حسن أريد به وجه الله هـو نوع من العبادة، ولقد ضرب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم المثل حين فضل الأخ العامل على أخيه الزاهد الذي لا يفارق المسجد ويعيش عالة على أخيه، حين قال ما معناه: أخوه أعبد أو أتقى منه.

والعدل وتوخيه، والظلم واجتنابه ومكافحته من أسس التعامل الإسلامي؛ أمر بمعروف ونهي عن منكر، فإذا وجد المنكر يجب تقويمه باليد أولا، فإن لم تكن استطاعة فباللسان، وإلا فبأضعف الإيمان؛ بالقلب.

والظلم بأشكاله منكر؛ سواء أكان في فقدان المساواة -والناس سواسية [ ص: 132 ] كأسنان المشط- أو في انعدام الحرية، (ويولد الناس في الأصل أحرارا كما قال الخليفة العادل عمر رضي الله عنه ) ، أو في تسلط الحكام المستبدين، أو في احتكار السلع والحاجيات الضرورية للناس، أو في امتيازات خاصة بفئة أو طبقة أو لون أو عرق.

( يقول الرسول القائد صلى الله عليه وسلم : من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم. ) والتكافل الإسلامي واجب في إطار الأمة على الفرد وعلى الجماعة، فإذا لم يقم فهذا تكذيب بالدين:

( أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين ) .

وينذر الله المرائين الذين يؤدون بعض العبادات ويفعلون عكس غاياتها في معاملاتهم:

( فويل للمصلين الذين هـم عن صلاتهم ساهون الذين هـم يراءون ويمنعون الماعون ) (الماعون:1-7) .

والمؤمن الواعي هـو الإنسان المطمئن الذي لا يخاف مكافحة الشرور، ويسهم في عمل الخير، يؤدي فروض عبادته لله، ويؤدى حق المحرومين المعلوم في ماله:

( إن الإنسان خلق هـلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا )

( إلا المصلين الذين هـم على صلاتهم دائمون والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم ) (المعارج:19- 25) .

مواصفات المؤمنين الأتقياء المحسنين معروفة، وثوابهم في الآخرة معروف: [ ص: 133 ] ( إن المتقين في جنات وعيون آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هـم يستغفرون وفي أموالهم حق للسائل والمحروم ) (الذاريات:15-19) . والله يحب عياله من الخلق، بقدر محبتهم ومنفعتهم لبعضهم بعضا، ( قال عليه الصلاة والسلام : الخلق كلهم عيال الله، وأحبهم إليه أنفعهم لعياله. ) لذا إذا افتقد التكافل الإسلامي في بيئة أو مجتمع أو حي أو عرضة فإن هـذا (خروج) من الإيمان، إلى درجة أن المسئولين عنه تبرأ منهم ذمة الله، كما أسلفت: ( والله لا يؤمن من بات شبعان وجاره جائع، وهو يدري ) ، ( أيما أهل عرصة أصبح فيهم أمرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله ) (الحاكم) .

(إن اللهجة الشديدة المنذرة بالخروج عن الإيمان لم تستعمل بحق مرتكبي الكبائر؛ كشرب الخمر والزنى، كما استعملت هـنا بحق هـؤلاء، وذلك مما يدل على عظم مسئولية المجتمع كله إذا وجد فيه فقراء معدمون لا ينهض أحد بأمرهم، وإن هـذه الظاهرة -أعني: إهمال المجتمع لمن فيه من الفقراء والمحتاجين والعجزة المضطرين والمساكين المعوزين وأمثالهم- تعتبر (جريمة) أعظم من جرائم الزنى وشرب الخمر، التي هـي من الكبائر، وسكوت المسلمين على ظلم أغنيائهم وتحكمهم مع يسارهم وترفهم من الكبائر العظمى [ ص: 134 ] كذلك، خاصة إذا كان السكوت من دعاة الدين وعلماء المسلمين) [1] .

والشيخ حسن البنا رائد الحركات الإسلامية المعاصرة - رضي الله عنه وأجزل ثوابه- لم يقتصر في قوله وعمله على العقائد والعبادات -بالمفهوم الضيق- بل اهتم بأمور المسلمين كلها؛ فأقام المؤسسات الاقتصادية والمشاريع التعاونية، وفتح المدارس والمعاهد، وأنشأ المستوصفات والمشافي، ودرب الشباب على الإخشيشان والكفاح، وواجه الظلم بأنواعه والظالمين حتى استشهد برصاصهم.

فما بال أقوام يهتمون اليوم ببعض الجزئيات على حساب المقاصد للشريعة، ولا يولون القدر نفسه من الاهتمام للتأسي بأفعال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وأعماله وتعامله اليومي مع الناس، وهو سيد البشر جميعا في أخلاقه وصفاته زكاه الله في محكم كتابه: ( وإنك لعلى خلق عظيم ) (القلم:4) .

واليوم هـناك عشرات الملايين من المسلمين الجائعين المرضى الأميين في ديار مصابة بالجدب والقحط والجفاف والأوبئة والحرمان التام، وكلهم من المستضعفين المظلومين على أيدي أولي الأمر من ذوي القربى، وعلى أيدي الأجانب دولا وشركات وجمعيات مشبوهة، وهم ينتظرون من إخوانهم العون والإسعاف والمواساة. [ ص: 135 ] فلماذا يخفف بعضهم من التركيز على العدل الاجتماعي والتكافل الإسلامي ولا يبرزها في دعوته؟ أو يظن هـؤلاء الإخوة أن الزاد الروحي يكفي لإطعام هـؤلاء الجائعين؟ إن للجسد حقا مثلما للنفس حقا كما علمنا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم . ألا يعلم هـؤلاء الإخوة أنهم يتركون بذلك هـذه الساحة الاجتماعية للأفاكين من الملحدين الذين يهتمون ظاهرا بالفقراء، ويعدونهم -كذبا- بجنة ماركسية مستقبلية إذا رددوا كالببغاوات: (إن الدين أفيون الشعوب) . بل يترك هـؤلاء الإخوة الساحة نفسها للأجانب و (الخواجات) في جمعيات رحمة، وإسعاف وتوزيع أغذية وأدوية، وتأسيس رياض أطفال وثانويات بل وجامعات، وإقامة مستشفيات وعيادات ومآوي عجزة، ونواد اجتماعية، وإغداق المساعدات المالية الضخمة في قروض زراعية وهبات وغيرها [2] .

ويعترض بعضهم على الدعوة للانخراط في العمل الاجتماعي بحجة أن هـذا هـو جزء من كل، ويقولون: يجب التركيز على قيام الدولة الإسلامية، ومتى حدث ذلك تحل هـذه المشكلات حلا عادلا. [ ص: 136 ] إلا أن العمل لقيام الحكم الإسلامي لا يمنع قيام عمل اجتماعي مواكب، ربما أسهم في تسريع قيام هـذا الحكم، وإلى أن يقوم الحكم الإسلامي في سائر دار الإسلام ماذا يرتئي هـؤلاء الإخوة فعله لعشرات ملايين المحرومين؟ إنهم بالفعل يتركونهم -حتى الآن- للجمعيات الأجنبية، أما سمعوا بالخواجا أندرية سابيه البلجيكي الذي تبنى (30903) من أطفال المسلمين الصوماليين [3] ؟

ولقد نشرت إحدى الصحف العربية الرصينة [4] أربعة أعمدة عن هـذا الموضوع، وذكرت أن البليجيكي (أندرية سابيه) طالب حكومته بعلاوات عائلية تبلغ (37 مليون دولار) ، وتقول الصحيفة بالحرف الواحد: والأغرب من هـذا كله أن الدولة الأفريقية لم تكذب الموضوع، بل وصل الأمر إلى أن أعلنت سفارتها في بروكسل أن (أندريه سابيه) سيمنح المواطنة الفخرية، بل وتفكر هـذه الدولة الأفريقية صاحبة الأطفال في ترشيح (أندريه سابيه) الذي يعمل لحساب شركة بلجيكية ترتبط بعقود في أفريقيا، لجائزة (نوبل) . وتختم الجريدة الموضوع بقولها:

(وكل هـذه الجهود الجماعية والفردية في تغيير اتجاهات الإفريقيين وتحولهم إلى الأديان والعقائد غير الإسلامية ليست بهدف تحقيق الذات أو إشباع حاجة إنسانية) . [ ص: 137 ] والطريف أن الجريدة بدأت مقالها هـذا بالمقطع التالي:

(المسلمون في أفريقيا يعانون معاناة شديدة، فهناك محاولات كثيرة للضغط على بعض هـذه الجماعات الإسلامية في مناطق العوز والجفاف؛ لتغيير اتجاهاتهم الإسلامية، فقد اشتدت أزمة الجوع في أفريقيا، وزاد التخلف في مناطق متسعة بدرجة مخيفة لدرجة أن بعض الدول (النيجر) لا تستوعب في مدارسها سوى واحد بالمائة فقط من شبابها، الذين وصلوا إلى سن التعليم الثانوي... وزادت شدة الفقر... وكل هـذا يؤثر على استقلال هـذه الجماعات في ممارستها عقائدها بحرية... وقامت المنظمات الأهلية الغربية والأفراد بما عجزت عنه الأمم المتحدة... وحدثت عملية جلب صغار اللاجئين من أفريقيا إلى الغرب وتعليمهم وتدريبهم، ثم عودتهم بعد سنوات إلى مواطنهم الأصلية وهم يحملون في داخلهم علامات ذات صبغة رسمية وتعاقدية مع الغرب؛ ليكونوا دعاة مخلصين ينشرون معلوماتهم المغلوطة وغير الصحيحة عن الإسلام والعرب) .

وتتابع الجريدة: (وفي قلب الريف الإنكليزي تتم هـذه الممارسات بشكل رسمي الآن فقد تم إنشاء: قرية الأطفال الدولية، في: سيد لسكومب ، وتستقبل القرية آلاف الفقراء من الأطفال، بالاتفاق مع ذويهم، والذين لا يقل سنهم عن عشر سنوات ويشترط أن يمكث الأطفال في هـذه القرية لمدة عشر سنوات) .

ثم تضيف الصحيفة: (وفي الولايات المتحدة يمكن للمواطن أن يشتري طفلا من أفريقيا، وسعر الطفل يتراوح ما بين ألفي دولار وثلاثة آلاف وخمسمائة دولار [ ص: 138 ] حسب العمر، ومصدر هـؤلاء الأطفال مؤسسة تدعى مؤسسة (أمل) ، التي تقوم بشراء الأطفال من المستشفيات أو الملاجىء أو دور التربية في البلاد التي تعاني من المجاعة والفقر، ثم تقوم بتصديرهم لبيعهم في العالم الجديد) . انتهى كلام الجريدة.

فما بال أقوام آخرين يوجهون جهودهم المالية في مؤسساتهم المسلمة إلى بلاد الغرب أوروبا وأمريكا؛ لدعم جاليات مسلمة هـناك، وأكثر هـذه الجاليات مكتفية ماديا وذات دخل كبير [5] ، أليس الأولى الدفاع عن كرامة المسلمين المحرومين وحمايتهم من الغزو الأجنبي في عقر دارهم، وتركيز الدعوة والخدمات الاجتماعية على عشرات ملايين المسلمين المرضى والجياع في أفريقيا وآسيا؛ عوضا عن صرف المال الكثير على اجتماعات ولقاءات وزيارات وحفلات في الخارج، يكثر فيها الكلام، ويقل بعدها العمل الهادف الدءوب المبرمج، ولا يستفيد من هـذه الأموال المصروفة إلا نفر قليل من المرتزقة الذين يعيشون على الإسلام ولا يعيشونه.

وما بال قوم آخرين -أفرادا ومؤسسات- يدفعون للمستشرقين -وجلهم من الصهاينة- في ميزانيات إقامة دوائر للدراسات العربية والإسلامية، إنهم يستعملون المعلومات المجموعة من هـذه الدراسات [ ص: 139 ] لمزيد من التخريب والتفتيت المجتمعي وزيادة الانقسامات بين المسلمين؛ أفرادا وحكومات، وأكثر دراساتهم عن: الفرق والطوائف والشيع في تاريخ الإسلام.

أما آن الأوان لتحديد الأولويات في العمل للإسلام، ووضع المال والجهد فيما يفيد ويجدي آنيا ومستقبليا؟ من المفارقات المؤسفة أن هـناك مؤسسات وجمعيات مخلصة تعي هـذه البديهيات إلا أنها محدودة الدخل والمال، وهناك مؤسسات وجمعيات قادرة -ماليا- إلا أنها على ما يبدو لم تستوعب بعد هـذه الأولويات.

(المؤمن كيس فطن) و (لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين) هـكذا علمنا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، فاللهم اجعل قومنا جميعا ممن يتحلون بالكياسة والفطانة؛ لكي لا يلدغوا من الجحر نفسه مرات عدة. [ ص: 140 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية