الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ولو أوصى لذوي قرابته أو قراباته ، أو لأنسابه أو لأرحامه ، أو لذوي أرحامه هذه الألفاظ الخمسة سواء ، فعند أبي حنيفة الوصية بهذه الألفاظ للأقرب ، فالأقرب فالحاصل أن عند أبي حنيفة - عليه الرحمة - يعتبر في هذه الوصية خمسة أشياء الرحم المحرم والأقرب فالأقرب وجمع الوصية وهو اثنان فصاعدا ، وأن يكون سوى الوالدين والمولودين ، وأن يكون ممن لا يرث ، وعندهما يدخل في هذه الوصية ذو الرحم المحرم والقريب والبعيد إلى أقصى أب له في الإسلام حتى لو أوصى للعلوية والعباسية يصرف الثلث إلى من اتصل بسيدنا علي ، وبسيدنا العباس رضي الله عنهما لا إلى من فوقهما من الآباء ، ولا خلاف في اعتبار الأوصاف الثلاثة ، وهي : اعتبار جمع الوصية وأن لا يكون والدا ولا ولدا وأن يكون ممن لا يرث ( أما ) الأول ; فلأن لفظ ذوي : لفظ جمع ، وأقل الجمع في باب الوصية اثنان ; لأن الوصية أخت الميراث ، وفي باب الميراث كذلك ، فإن الثنتين من البنات ، والأخوات ألحقتا بالثلاث ، فصاعدا في استحقاق الثلثين ، وحجب الأم من الثلث إلى السدس على ما مر حتى لو أوصى لذوي قرابته استحق الواحد فصاعدا كل الوصية ; لأن ذي ليس بلفظ جمع .

                                                                                                                                وأما الثاني ; فلأن الوالد والولد لا يسميان قرابتين عرفا وحقيقة أيضا ; لأن الأب أصل ، والولد فرعه وجزؤه ، والقريب من يقرب من غيره لا من نفسه ، فلا يتناوله اسم القريب .

                                                                                                                                وقال الله سبحانه وتعالى { الوصية للوالدين ، والأقربين } عطف الأقرب على الوالد ، والعطف يقتضي المغايرة في الأصل ، وإذا لم يدخل الوالد والولد في [ ص: 349 ] هذه الوصية ، فهل يدخل فيها الجد وولد الولد ؟ ذكر في الزيادات أنهما يدخلان ، ولم يذكر فيه خلافا ، وذكر الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله أنهما لا يدخلان ، وهكذا روي عن أبي يوسف رحمه الله وهو الصحيح ; لأن الجد بمنزلة الأب ، وولد الولد بمنزلة الولد ، فإذا لم يدخل فيها الوالد ، والولد كذا الجد وولد الولد ( وأما ) الثالث فلما روينا عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : { لا ، وصية لوارث } ، وإنما الخلاف في موضعين : أحدهما : أنه يعتبر المحرم عند أبي حنيفة ، وعندهما لا يعتبر ، والثاني : أنه يعتبر الأقرب ، فالأقرب عنده ، وعندهما لا يعتبر ( وجه ) قولهما أن القريب اسم مشتق من معنى ، وهو القرب ، وقد وجد القرب ، فيتناول الرحم المحرم ، وغيره والقريب والبعيد ، وصار كما لو أوصى لإخوته أنه يدخل الإخوة لأب وأم والإخوة لأب والإخوة لأم ; لكونه اسما مشتقا من الأخوة كذا هذا .

                                                                                                                                والدليل عليه ما روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه { لما نزل قوله تبارك وتعالى { ، وأنذر عشيرتك الأقربين } جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا ، فخص ، وعم ، فقال يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار ، فإني لا أملك لكم من الله تبارك وتعالى ضرا ولا نفعا يا معشر بني قصي أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم من الله عز شأنه ضرا ، ولا نفعا } ، وكذلك قال عليه الصلاة والسلام لبني عبد المطلب ، ومعلوم أنه كان فيهم الأقرب والأبعد وذو الرحم المحرم وغير المحرم ، فدل أن الاسم يتناول كل قريب إلا أنه لا يمكن العمل بعمومه لتعذر إدخال أولاد سيدنا آدم عليه الصلاة والسلام فيه ، فتعتبر النسبة إلى أقصى أب في الإسلام ; لأنه لما ورد الإسلام صارت المعرفة بالإسلام ، والشرف به ، فصار الجد المسلم هو النسب ، فتشرفوا به ، فلا يعتبر من كان قبله ، ولأبي حنيفة - رحمه الله - أن الوصية لما كانت باسم القرابة أو الرحم ، فالقرابة المطلقة هي قرابة ذي الرحم المحرم ; ولأن معنى الاسم يتكامل بها .

                                                                                                                                وأما في غيرها من الرحم غير المحرم فناقص ، فكان الاسم للرحم المحرم لا لغيره ; لأنه لو كان حقيقة لغيره ، فأما أن يعتبر الاسم مشتركا أو عاما ، ولا سبيل إلى الاشتراك ; لأن المعنى متجانس ، ولا إلى العموم ; لأن المعنى متفاوت ، فتعين أن يكون الاسم لما قلنا حقيقة ، ولغيره مجازا ، بخلاف الوصية لإخوته ; لأن مأخذ الاسم ، وهو الإخوة لا يتفاوت ، فكان اسما عاما ، فيتناول الكل ، وههنا بخلافه على ما بينا .

                                                                                                                                ولأن المقصود من هذه الوصية هو صلة القرابة ، وهذه القرابة هي واجبة الوصل محرمة القطع لا تلك ، والظاهر من حال المسلم الدين المسارعة إلى إقامة الواجب ، فيحمل مطلق اللفظ عليه ، بخلاف ما إذا أوصى لإخوته ; لأن قرابة الإخوة واجبة الوصل محرمة القطع على اختلاف جهاتها ، فهو الفرق بين الفصلين ، وجواب أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - على زعمهما كان يستقيم في زمانهما ; لأن أقصى أب الإسلام كان قريبا يصل إليه بثلاثة آباء أو أربعة آباء ، فكان الموصى له معلوما ، فأما في زماننا ، فلا يستقيم ; لأن عهد الإسلام قد طال ، فتقع الوصية لقوم مجهولين ، فلا تصح إلا أن نقول أنه يصرف إلى أولاد أبيه وأولاد جده وأولاد جد أبيه وإلى أولاد أمه وأولاد جدته وجدة أمه ; لأن هذا القدر قد يكون معلوما ، فيصرف إليهم ، فأما الزيادة على ذلك فلا ، والله سبحانه وتعالى أعلم ، فإن ترك عمين وخالين ، وهم ليسوا بورثته بأن مات ، وترك ابنا وعمين وخالين ، فالوصية للعمين لا للخالين في قول أبي حنيفة رضي الله عنه ; لأنه يعتبر الأقرب ، فالأقرب ، والعمان أقرب إليه من الخالين ، فكانا أولى بالوصية ، وعندهما الوصية تكون بين العمين ، والخالين أرباعا ; لأن القريب والبعيد سواء عندهما .

                                                                                                                                ولو كان له عم واحد وخالان ، فللعم نصف الثلث ، وللخالين النصف الآخر ; لأن الوصية حصلت باسم الجمع ، وأقل من يدخل تحت اسم الجمع في الوصية اثنان ، فلا يستحق العم الواحد أكثر من نصف الوصية ; لأن أقل من ينضم إليه مثله ، وإذا استحق هو النصف بقي النصف الآخر لا مستحق له أقرب من الخالين ، فكان لهما ، وعندهما يقسم الثلث بينهم أثلاثا لاستواء الكل في الاستحقاق ، فإن كان له عم واحد ، ولم يكن له غيره من ذوي الرحم المحرم ، فنصف الثلث لعمه ، والنصف يرد على ورثة الموصي عنده ; لأن العم الواحد لا يستحق أكثر من النصف ، فبقي النصف الآخر لا مستحق له ، فتبطل فيه الوصية ، وعندهما يصرف النصف الآخر إلى ذي الرحم الذي ليس بمحرم .

                                                                                                                                ولو أوصى لأهل بيته يدخل فيه من جمعه آباؤهم أقصى أب في الإسلام حتى أن الموصي لو كان علويا يدخل في هذه الوصية كل من ينسب إلى سيدنا علي رضي الله عنه [ ص: 350 ] من قبل الأب ، وإن كان عباسيا يدخل فيها كل من ينسب إلى العباس رضي الله عنه من قبل الأب سواء كان بنفسه ذكرا أو أنثى بعد إن كانت نسبته إليه من قبل الآباء ، ولا يدخل من كانت نسبته من قبل الأم ; لأن المراد من أهل البيت أهل بيت النسب والنسب إلى الآباء وأولاد النساء آباؤهم قوم آخرون ، فلا يكون من أهل بيته ، ويدخل تحت الوصية لأهل بيته أبوه وجده إذا كان ممن لا يرث ; لأن بيت الإنسان أبوه ومن ينسب إلى بيته ، فالأب أصل البيت ، فيدخل في الوصية ، ولا يدخل في الوصية بالقرابة ; لأن القرابة من تقرب إلى الإنسان بغيره لا بنفسه ، وذلك لا يوجد في أب .

                                                                                                                                وكذلك لو أوصى لنسبه أو حسبه ، فهو على قرابته الذين ينسبون إلى أقصى أب له في الإسلام حتى لو كان آباؤه على غير دينه دخلوا في الوصية ; لأن النسب عبارة عمن ينسب إلى الأب دون الأم .

                                                                                                                                وكذلك الحسب ، فإن الهاشمي إذا تزوج أمة ، فولدت منه ينسب الولد إليه لا إلى أمه ، وحسبه أهل بيت أبيه دون أمه ، فثبت أن النسب والحسب يختص بالأب دون الأم .

                                                                                                                                وكذلك إذا أوصى لجنس فلان ، فهم بنو الأب ; لأن الإنسان يتجنس بأبيه ، ولا يتجنس بأمه ، فكان المراد منه جنسه في النسب .

                                                                                                                                وكذلك اللحمة عبارة عن الجنس ، وذكر المعلى عن أبي يوسف إذا أوصى لقرابته ، فالقرابة من قبل الأب والأم والجنس واللحمة من قبل الأب ; لأن القرابة من يتقرب إلى الإنسان بغيره ، وهذا المعنى يوجد في الطرفين ، بخلاف الجنس على ما بينا .

                                                                                                                                وكذلك الوصية لآل فلان هو بمنزلة الوصية لأهل بيت فلان ، فلا يدخل أحد من قرابة الأم في هذه الوصية ، ولو أوصى لأهل فلان ، فالوصية لزوجة فلان خاصة في قول أبي حنيفة ، وعندهما هذا على جميع من يعولهم فلان ممن تضمه نفقته من الأحرار ، فيدخل فيه زوجته واليتيم في حجره ، والولد إذا كان يعوله ، فإن كان كبيرا قد اعتزل عنه ، أو كان بنتا قد تزوجت ، فليس من أهله ، ولا يدخل فيه مماليكه ، ولا وارث الموصي ، ولا الموصى لأهله ( وجه ) قولهما أن الأهل عبارة عمن ينفق عليه قال الله تبارك وتعالى خبرا عن نبيه سيدنا نوح عليه الصلاة والسلام { إن ابني من أهلي } .

                                                                                                                                وقال تبارك وتعالى في قصة لوط عليه الصلاة والسلام { ، فنجيناه وأهله } ، ولأبي حنيفة - رحمه الله - أن الأهل عند الإطلاق يراد به الزوجة في متعارف الناس يقال : فلان متأهل وفلان لم يتأهل ، وفلان له أهل ، وفلان ليس له أهل ، ويراد به الزوجة ، فتحمل الوصية على ذلك ، ولا يدخل فيه المماليك ; لأنهم لا يسمون أهل المولى ، ولا يدخل فيه وارث الموصي ; لأنه إن خرج منه لا يدخل ، فعند الإطلاق أولى ، ولا يدخل فلان الذي أوصى لأهله ; لأن الوصية وقعت للمضاف إليه ، والمضاف غير المضاف إليه ، فلا يدخل في الوصية كما لو أوصى لولد فلان إن فلانا لا يدخل في الوصية لما قلنا كذا هذا والله سبحانه ، وتعالى أعلم ولو أوصى بثلث ماله لإخوته ، وله ستة إخوة متفرقة ، وله أولاد يحوزون ميراثه ، فالثلث بين إخوته سواء ; لأنهم في استحقاق الاسم سواء ، بخلاف الوصية لأقرباء فلان أنه يصرف إلى الأقرب فالأقرب عند أبي حنيفة ; لأن القرابة تحتمل التفاوت في القرب والبعد .

                                                                                                                                وأما الأخوة ، فلا تحتمل التفاوت ألا ترى أنه يقال هذا أقرب من فلان ، ولا يقال هذا أكثر أخوة من فلان هذا إذا كان له ، ولد يحوز ميراثه ، فإن لم يكن ; فلا شيء للإخوة من الأب والأم والإخوة من الأم ; لأنهم ورثة ، ولا وصية لوارث ، وللإخوة من قبل الأب ثلث ذلك الثلث ; لأنهم لا يرثون ، ولا يقال : إذا لم تصح الوصية للإخوة لأب وأم ، وللإخوة لأم ينبغي أن يصرف كل الثلث إلى الإخوة للأب لأنا نقول نعم هكذا لو لم تصح الإضافة إلى الإخوة لأب ، وأم وإلى الإخوة لأم ، والإضافة إليهم وقعت صحيحة بدليل أنه لو أجازت الورثة ; جازت الوصية لهم ، وصار هذا كرجل أوصى بثلث ماله لثلاثة نفر ، فمات اثنان منهم قبل موت الموصي ، فللباقي منهم ثلث الثلث ; لأن الإضافة إليهم ، وقعت صحيحة كذا هذا ، بخلاف ما إذا أوصى لفلان وفلان ، وأحدهما ميت ; لأن هناك الإضافة لم تصح ; لأن الميت ليس بمحل للوصية أصلا ، فلم يدخل تحت الإضافة قال أبو يوسف - رحمه الله - في رجل أوصى بثلث ماله في الصلة وله إخوة وأخوات وبنو أخ وبنو أخت : يوضع الثلث في جميع قرابته من هؤلاء ، ومن ولد منهم بعد موته لأقل من ستة أشهر ; لأن الصلة يراد بها صلة الرحم ، فكأنه نص عليه ، ومن ولد منهم لأقل من ستة أشهر علم أنه كان موجودا يوم موت الموصي ، فيدخل في الوصية .

                                                                                                                                وذكر محمد رحمه الله [ ص: 351 ] في الزيادات إذا أوصى بثلث ماله لأختانه ، ثم مات ، فالأختان أزواج البنات ، والأخوات ، والعمات ، والخالات ، فكل امرأة ذات رحم محرم من الموصي ، فزوجها من أختانه ، وكل ذي رحم محرم من زوجها من ذكر ، وأنثى ، فهو أيضا من أختانه ، ولا يكون الأختان إلا أزواج ذوات الرحم المحرم ، ومن كان من قبلهم من ذي الرحم المحرم ، ولا يكون من الأختان من كان من قبل نساء الموصي أي : زوجاته ; لأن من ينسب إلى الزوجة ، فهو صهر ، وليس بختن على ما نذكر إن شاء الله تعالى ، وقول محمد - رحمه الله - حجة في اللغة ، وذكر محمد - رحمه الله - في الإملاء أيضا إذا قال : قد أوصيت لأختاني ، فأختانه أزواج كل ذات رحم محرم من الزوج ، فإن كانت له أخت ، وبنت أخت ، وخالة ، ولكل واحدة منهن زوج ، ولزوج كل واحدة منهن أب ، فكلهم جميعا أختان ، والثلث بينهم بالسوية الذكر ، والأنثى فيه سواء ، أم الزوج ، وأختانه ، وغير ذلك فيه سواء على ما بينا ، فقد نص محمد - رحمه الله - في موضعين على أن الأختان ما ذكر ، وقول محمد حجة في اللغة .

                                                                                                                                وقال في الإملاء : إذا قال : أوصيت بثلث مالي لأصهاري ، فهو على كل ذي رحم محرم من زوجته ، وزوجة أبيه ، وزوجة ابنه ، وزوجة كل ذي رحم محرم منه ، فهؤلاء كلهم أصهاره ، ولا تدخل في ذلك الزوجة ، ولا امرأة أبيه ، ولا امرأة أخيه ، وقول محمد - رحمه الله - حجة في اللغة ، والدليل أيضا على أن الأصهار من كان من أهل الزوجة ما روي { أنه عليه الصلاة والسلام لما أعتق صفية ، وتزوجها أعتق من ملك ذا رحم محرم منها إكراما لها } .

                                                                                                                                وكانوا يسمون أصهاره عليه الصلاة والسلام .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية