الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ولو أوصى ليتامى بني فلان فإن كان يتاماهم يحصون جازت الوصية ; لأنهم إذا كانوا يحصون ، وقعت الوصية لهم بأعيانهم ; لكونهم معلومين ، فأمكن إيقاعها تمليكا منهم ، فصحت كما لو أوصى ليتامى هذه السكة ، أو هذه الدار ، ويستوي فيها الغني والفقير ; لأن اليتيم في اللغة اسم لمن مات أبوه ، ولم يبلغ الحلم ، وهذا لا يتعرض للفقر والغنى .

                                                                                                                                وقال الله سبحانه وتعالى : { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما }

                                                                                                                                وقال عليه الصلاة والسلام { ابتغوا في أموال اليتامى خيرا كي لا تأكلها الصدقة } قد سموا يتامى ، وإن كان لهم مال ، فكل صغير مات أبوه يدخل تحت الوصية ، ومن لا فلا ، فإن كانوا لا يحصون ، فالوصية جائزة ، وتصرف إلى الفقراء منهم ; لأنها لو صرفت إلى الأغنياء لبطلت لجهالة الموصى له ، ولو صرفت إلى الفقراء لجازت ; لأنها وصية بالصدقة ، وإخراج للمال إلى الله تعالى ، والله تعالى واحد معلوم ، وأمكن أن تجعل الوصية للفقراء ، وإن لم يكن في اللفظ ما ينبئ عن الحاجة لغة لكنه ينبئ عن سبب الحاجة ، وعما يوجب الحاجة بطريق الضرورة ; لأن الصغر والانفراد عن الأب أعظم أسباب الحاجة إذ الصغير عاجز عن الانتفاع بماله ، ولا بد له ممن يقوم بإيصال منافع ماله إليه ، وكذا هو عاجز عن القيام بحفظ ماله ، واستنمائه ، ولا بقاء للمال عادة إلا بالحفظ والاستنماء ، وهو عاجز عن ذلك كله ، فيصير في الحكم كمن انقطعت عليه منافع ماله بسبب بعده عن ماله ، وهو ابن السبيل ، فصار الاسم بهذه الوساطة منبئا عن الحاجة ; ولهذا المعنى جعل الله لليتامى سهما من خمس الغنيمة بقوله تبارك وتعالى { ، واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى } .

                                                                                                                                وقال تبارك وتعالى { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى } ، وأراد به المحتاجين منهم دون الأغنياء .

                                                                                                                                وإذا كان كذلك أمكن تصحيح هذا التصرف بجعله إيصاء بالصدقة .

                                                                                                                                وكذلك إذا أوصى لزمنى بني فلان أو لعميانهم ; لأن الاسم يدل على سبب الحاجة عادة ، وهو الزمانة ، والعمى ، بخلاف ما إذا أوصى لبني فلان ، وهم لا يحصون إنه لا يصح ; لأنه لا يمكن تصحيحه بطريق التمليك بجهالة الموصى لهم ، ولا بطريق الإيصاء بالصدقة ; لأنه ليس في لفظ الابن ما ينبئ عن الحاجة ، ولا ما يوجب الحاجة ، وههنا ، بخلافه على ما بينا ، فتصح الوصية ، ثم إذا صحت ، وانصرفت الوصية إلى الفقراء من اليتامى ، فإن صرف إلى اثنين منهم فصاعدا ; جاز بالإجماع ، وإن صرف جميع الثلث إلى ، واحد ; فهو على الخلاف الذي ذكرنا ، والأفضل للموصي أن يصرف إلى كل من قدر منهم ; لأنه أقرب إلى العمل بحقيقة اللفظ ، وتحقيق مقصود الموصي ، ولو أوصى بثلث ماله لأرامل بني فلان ; جازت الوصية سواء كن يحصين ، أو لا يحصين أما إذا كن يحصين ، فلا يشكل ، فإن الوصية وقعت تمليكا منهن بأعيانهن ; لكونهن معلومات .

                                                                                                                                وكذلك إذا كن لا يحصين ; لأن في الاسم ما يدل على الحاجة ; لأن الأرملة اسم لامرأة بالغة ، فارقت زوجها بطلاق أو وفاة دخل بها أو لم يدخل كذا قال محمد - رحمه الله - .

                                                                                                                                وقال ابن الأنباري : الأرملة التي لا زوج لها من قولهم أرمل القوم ، فهم مرملون إذا فني زادهم ومن فني زاده كان محتاجا ، فكان في الاسم ما ينبئ عن الحاجة ، فتقع وصية بالصدقة ، وإخراج المال إلى الله تبارك وتعالى والله سبحانه وتعالى واحد معلوم وهل يدخل في هذه الوصية الرجال الذين فارقوا أزواجهم ؟ قال عامة العلماء : رضي الله عنهم لا يدخلون .

                                                                                                                                وقال الشافعي : - رحمه الله - يدخل في كل من خرج من كرمة فلان ذكرا كان أو أنثى ، وإليه ذهب القتبي ، واحتجا بقول جرير الشاعر [ ص: 347 ]

                                                                                                                                هذي الأرامل قد قضيت حاجتها ، فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر

                                                                                                                                أطلق اسم الأرمل على الرجل .

                                                                                                                                ( ولنا ) أن حقيقة هذا الاسم للمرأة لما ذكرنا عن محمد ، وهو من كبار أهل اللغة روى عنه أبو عبيد وأبو العباس ثعلب وأقرانهم كما روينا عن الخليل ، والأصمعي ، وأقرانهما .

                                                                                                                                وقال الخليل : يقال : امرأة أرملة ، ولا يقال : رجل أرمل إلا في المليح من الشعر .

                                                                                                                                وقال ابن الأنباري رحمه الله لا يقال : رجل أرمل إلا في الشعر ، ونحو ذلك ، ولأن الاسم لما كان مشتقا من قولهم أرمل القوم إذا ، فني زادهم ، فالمرأة هي التي فني زادها بموت زوجها ; لأن النفقة على الزوج لا على المرأة ، فإذا مات ، فقد فني زادها ، وبه تبين أن قول جرير محمول على مليح الشعر كما قال الخليل أو هو شاذ كما قال ابن الأنباري ، أو لازدواج الكلام قال الله سبحانه وتعالى { وجزاء سيئة سيئة مثلها } .

                                                                                                                                وقال تعالى { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } ، وقوله سبحانه وتعالى { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } .

                                                                                                                                وكما قال الشاعر :

                                                                                                                                ، فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمي     مدى الدهر ما لم تنكحي أتأيم

                                                                                                                                ( ومعلوم ) أن الرجل لا يسمى أيما لكن أطلق عليه لازدواجه بقوله ، وإن تتأيمي كذا ههنا ، وإطلاق الاسم لا ينصرف إلى ما لا يذكر إلا لضرورة تمليح الشعر ، وازدواج الكلام ، أو في الشذوذ ; لأن مطلق الاسم ينصرف إلى ما تتسارع إليه الأفهام والأوهام ، وذلك ما قلنا ، ولو أوصى لأيامى بني فلان ، فإن كن يحصين ; جازت الوصية لما قلنا ، وإن كن لا يحصين لا تجوز ; لأنه ليس في لفظ الأيم ما ينبئ عن الحاجة لتجعل ، وصيته بالصدقة ; لأن الأيم في اللغة اسم لامرأة جومعت في قبلها ، وفارقها زوجها ، وشرحه محمد - رحمه الله - قال الأيم كل امرأة جومعت بنكاح جائز أو فاسد أو فجور ، ولا زوج لها غنية كانت أو فقيرة صغيرة كانت أو كبيرة ، وليس في هذه المعاني ما ينبئ عن الحاجة ، فلا يكون إيصاء بالتصدق ، بخلاف الوصية لأرامل بني فلان ، وهن لا يحصين إنها جائزة ; لأن اسم الأرملة ينبئ عن الحاجة على ما بينا ، فجعل وصية بالصدقة ، ثم إذا كن يحصين حتى جازت الوصية يدخل فيها الصغيرة ، والبالغة ، والغنية والفقيرة ; لأن الاسم في اللغة لا يتعرض لما سوى الأنوثة وحلول الجماع بها في قبلها وفراقها زوجها .

                                                                                                                                وقال الله تبارك وتعالى { ، وأنكحوا الأيامى منكم } ، وأنه يتناول الكبيرة والصغيرة حتى يجوز إنكاح الصغار ، كما يجوز إنكاح الكبار ، وكذا لا يتعرض للفقر والغنى ; لأنه سبحانه وتعالى قال عز من قائل { إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله } ، ولو كان متعرضا لشيء من ذلك لم يكن لقوله سبحانه ، وتعالى { إن يكونوا فقراء } معنى ، وهذا الذي ذكرنا أن الأيم اسم لامرأة جومعت في قبلها ، فارقها زوجها قول عامة المسلمين .

                                                                                                                                وقال أبو القاسم الصفار البلخي ، وأبو الحسن الكرخي - رحمهما الله - إن الجماع ليس بشرط لثبوت هذا الاسم .

                                                                                                                                وكذا الأنوثة بل يقع هذا الاسم على المدخول بها وعلى البكر ، ويقع على الرجل كما يقع على المرأة ، واحتجا بقول الشاعر

                                                                                                                                إن القبور تنكح الأيامى     النسوة الأرامل اليتامى

                                                                                                                                ، ومعلوم أن القبر يضم البكر إلى نفسه كما يضم الثيب .

                                                                                                                                وقال الشاعر :

                                                                                                                                فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمي     مدى الدهر ما لم تنكحي أتأيم

                                                                                                                                أي أمكث بلا زوج ما مكثت أنت بلا زوج .

                                                                                                                                وقال آخر :

                                                                                                                                فلا تنكحن جبارة إن شرها     عليك حرام فانكحن أو تأيما

                                                                                                                                ، والجواب أن حقيقة اللغة ما حكينا عن نقلة اللغة ، وهم أهل دقائق الألفاظ ، فيقبل نقلهم إياه فيما وضعت له ، وما ورد في استعمال بعض الفصحاء معدولا به عن تلك الحقائق ، فحمل على المجاز إما بطريق المقابلة ، والازدواج أو باعتبار بعض المعاني التي وضع لها الاسم ، والدليل على أن الأنوثة أصل ، وأنه لا يقع على الذكر أنه لا يدخل علامة التأنيث فيه يقال : امرأة أيم ، ولا يقال أيمة ، ولو كان الاسم يتناول الذكر ، والأنثى لفرقوا بينهما بإدخال علامة التأنيث في المرأة ، وذكر الفقيه أبو جعفر الهندواني أن ما ذكر محمد في صفة الأيم جومعت بفجور ، أو غير فجور مذهبهما ، فأما عند أبي حنيفة - رحمه الله - التي جومعت بفجور لا تدخل في هذه الوصية ; لأن التي جومعت بفجور بكر لا أيم عنده حتى [ ص: 348 ] تزوج ، كما تزوج الأبكار عنده ، ومنهم من قال : هذا قولهم جميعا ; لأنها أيم حقيقة لوجود الجماع إلا أنها تزوج كما تزوج الأبكار عنده لمشاركتها الأبكار عنده في المعنى الذي أقيم فيه السكوت مقام الرضا نطقا في حقها باعتبار السكوت ، وهو الحياء على ما عرف في مسائل الخلاف ، ولو أوصى لكل ثيب من بني فلان إن كن يحصين صحت الوصية لما ذكرنا في المسائل المتقدمة ، ويدخل تحت هذه الوصية كل امرأة جومعت بحلال أو حرام لها زوج ، أو لم يكن لها زوج بلغت مبلغ النساء ، أو لم تبلغ كذا ذكر محمد ، ويدخل فيه الفقيرة والغنية والصغيرة والكبيرة ; لأن اللفظ لا يتعرض لذلك .

                                                                                                                                وقال الله تبارك وتعالى { ثيبات ، وأبكارا } أدخل فيه الصغار والكبار ، والفقيرات والغنيات يدل عليه أنهن دخلن فيما يقابله ، وهو قوله سبحانه وتعالى ، وأبكارا فكذا في قوله تعالى ثيبات فدل الأمر على اشتراط الدخول ; لأنه قابل الثيبات بالأبكار ، وهن اللاتي لم يجامعن ، فكانت الثيبات اللاتي جومعن لتصح المقابلة ، ولا تشترط مفارقتها زوجها ، بخلاف الأرملة ; لأن اللغة كذا تقتضي ، فيتبع فيه وضع أرباب اللغة ، ولا يدخل فيه الرجل ; لأن هذا الاسم لا يتناول الرجل حقيقة ، وإن ورد في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : { والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة } ; لأن ذلك إطلاق بطريق المجاز للازدواج والمقابلة ، وإن كن لا يحصين لم تجز الوصية ; لأنه ليس في الاسم ما ينبئ عن الحاجة لما ذكرنا أنه اسم لأنثى من بنات آدم عليه الصلاة والسلام جومعت ، وليس في الأوصاف المذكورة في الحد ما ينبئ عن الحاجة ، فلا يراد بهذه الوصية إلا التمليك والمتملك مجهول ، فلا يصح ، ولو أوصى لكل بكر من بني فلان يجوز إذا كن محصوات لما قلنا ، ويدخل فيه الصغيرة والكبيرة الغنية والفقيرة إذ البكر اسم لامرأة لم تجامع بنكاح ، ولا غيره كذا قال محمد - رحمه الله - ، وإطلاق هذا الاسم على الذكر في الحديث ، وهو قوله عليه الصلاة والسلام { البكر بالبكر جلد مائة ، وتغريب عام } بطريق المجاز ، وهو المجاز بطريق المقابلة والازدواج ، أو كان لها حقيقة ، ثم غلب استعماله في متعارف الخلق على الأنثى ، فصار بحال لا تنصرف أوهام الناس عند إطلاقه إلا إلى الأنثى ، فيحمل الحديث على المجاز ، ولو كانت عذرتها زالت بالوضوء أو بالوثبة ، أو بذرور الدم تستحق الوصية ; لأنها لم تجامع ومن الناس من خالف محمدا - رحمه الله - قالوا إن هذه أيضا لا تستحق الوصية ; لأنها ليست ببكر ، والصحيح ما ذكره محمد رحمه الله لما ذكرنا ، وذكر محمد رحمه الله أن التي زالت بكارتها بفجور لا تكون بكرا ، ولا تكون لها ، وصية .

                                                                                                                                وقال بعض مشايخنا منهم الفقيه أبو جعفر الهندواني - رحمه الله - : إن هذا قولهما ( فأما ) عند أبي حنيفة - رحمه الله - ، فإنها بكر ، وتستحق الوصية ، ومنهم من قال : لا خلاف في أنها لا تستحق الوصية ; لأنها ليست ببكر حقيقة لعدم حد البكارة ، وإنما تزوج تزوج الأبكار عند أبي حنيفة - رحمه الله - لما ذكرنا ، والله سبحانه ، وتعالى أعلم بالصواب .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية