الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الوجه العشرون : أن إبطال حقيقة اليد ونفيها وجعلها مجازا هو في الأصل قول [ ص: 401 ] الجهمية المعطلة وتبعهم عليه المعتزلة وبعض المستأخرين ممن ينسب إلى الأشعري ، والأشعري وقدماء أصحابه يردون على هؤلاء ويبدعونهم ويثبتون اليد حقيقة ، قال عبد العزيز بن يحيى المالكي الكناني جليس الشافعي والخصيص به مات قبل الإمام أحمد في كتابه الرد على الجهمية والزنادقة ، قال : يقال للجهمي : أتقول إن لله وجها وله نفس وله يد ؟ فيقول : نعم ، ولكن معنى وجه الله هو الله ، ومعنى نفسه عينه ، ومعنى يده نعمته ، قال : والجواب أن يقال له ( فذكر كلاما يتعلق بالوجه والنفس ) ، ثم قال :

أما قوله في اليد : إنها يد نعمة ، كما تقول العرب : لك عندي يد ، فقد قال الله تعالى : ( بيدك الخير ) وقال : ( فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء ) وقال : ( تبارك الذي بيده الملك ) وقال : ( يد الله فوق أيديهم ) وقال : ( بل يداه مبسوطتان ) قال : فزعم الجهمي أن يد الله نعمته ، فبدل قولا غير الذي قيل له فأراد الجهمي أن يبدل كلام الله ، إذ أخبر أن له يدا بها ملكوت كل شيء فبدل مكان اليد نعمة ، وقال : العرب تسمي اليد نعمة ، قلنا له : العرب تسمي النعمة يدا ، وتسمي يد الإنسان يدا ، فإذا أرادت يد الذات جعلت على قولها علما ودليلا يعقل به السامع أنها أرادت الذات ، وإذا أرادت يد النعمة جعلت على قولها دليلا يعقل السامع كلامها أنها تريد باليد النعمة ، ولا تجعل كلامها مشتبها على سامعه ، ومن ذلك قول الشاعر :


ناولت زيدا بيدي عطية



فدل بهذا القول على يد الذات بالمناولة والياء حين قال : بيدي ، فجعل الياء استقصاء للعدد حين لم يكن له غير يدين ، وقال الآخر حين أراد يد النعمة :

اشكر يدين لنا عليك وأنعما     شكرا يكون مكافئا للمنعم

فدل على يد النعمة بقوله : لنا عليك ، ثم قال : وأنعما ، ثم قال : يدين ، فجعل النون مكان الياء لم يستقص بهما العدد ، فهذا قول العرب ومذهبها في لغاتها ، والله تعالى لم يسم في كتابه يدا بنعمة ولم يسم نعمة يدا ، سمى الله سبحانه اليد يدا والنعمة نعمة في جميع القرآن .

[ ص: 402 ] فأما ما ذكره سبحانه من يديه ويده فقد ذكرت ذلك في صدر هذا الكلام ، وأما النعمة التي هي غير اليد فمن ذلك قوله : ( واذكروا نعمة الله عليكم ) وقوله : ( وما بكم من نعمة فمن الله ) وقوله : ( وأتممت عليكم نعمتي ) وقوله : ( وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه ) فسمى الله تعالى النعم باسم النعمة ولم يسمها بغير أسمائها ، ومثل هذا في القرآن كثير وذكر تعالى أيدي المخلوقين فسماها بالأيدي ، فقال تعالى : ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ) وقال تعالى : ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ) وقال : ( والملائكة باسطو أيديهم ) فهذه أيد لا نعمة وذكر نعمته على زيد ونعمة النبي صلى الله عليه وسلم عليه فسماها نعمة ولم يسمها يدا ، ثم أخبر سبحانه عن يديه أنهما يدان لا ثلاثة ، وجعل الياء استقصاء للعدد حين قال : ( ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ) فدل على أنهما يدا الذات ، لا يتعارف العرب في لغاتها ولا أشعارها إلا أن هاتين اليدين يدا الذات لاستقصاء العدد بالياء ، وأما نعم الله فهي أكثر وأعظم من أن تحصر أو تعد ، قال الله تعالى : ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) .

واعلم رحمك الله أن قائل هذه المقالة جاهل بلغة القرآن وبلغة العرب ومعانيها وكلامها ، وذلك أن الله إذا افتتح الخبر عن نفسه بلفظ الجمع ختم الكلام بلفظ الجمع ، وإذا افتتح الكلام بلفظ الواحد ختم الكلام بلفظ الواحد ، وإنما يعني الخبر عن نفسه وإن كان اللفظ جمعا ، فأما ما كان من لفظ الواحد فهو قوله تعالى : ( وقضى ربك ) فافتتح الخبر عن نفسه بلفظ الواحد ، وبمثله ختم الكلام فقال : ( ألا تعبدوا إلا إياه ) وقال : ( وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا ) وقال : ( ربكم أعلم بكم ) أما ما افتتحه بلفظ الجمع فهو قوله : ( وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب ) فافتتحه بلفظ الجمع ثم ختمه بمثل ما افتتحه به فقال : [ ص: 403 ] ( فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا ) وإنما عنى بذلك نفسه لأنها كلمة ملوكية تقولها العرب .

وروي أن ابن عباس لقي أعرابيا ومعه ناقة فقال : لمن هذه ؟ فقال الأعرابي : لنا ، فقال له ابن عباس : كم أنتم ؟ فقال : أنا واحد ، فقال ابن عباس : هكذا قول الله تعالى : نحن وخلقنا وقضينا ، إنما يعني نفسه ، والمبهم يرد إلى المحكم فكل كلمة في القرآن من لفظ جمع قبلها محكم من التوحيد ترد إليه فمن ذلك قوله : ( وقضينا إلى بني إسرائيل ) يرد إلى قوله : ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ) وقوله : ( وخلقناكم أزواجا ) يرد إلى قوله : ( إنما أمره ) وقوله : ( لما جاء أمر ربك ) كذلك قوله : ( أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما ) يرد إلى قوله : ( لما خلقت بيدي ) فلما افتتح الكلام بلفظ الجمع فقال : ( أولم يروا أنا خلقنا لهم ) قال : ( أيدينا ) ولما افتتح بقوله : ( ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ) ختم الكلام على ما افتتحه به ، فهذا بيان لقوم يفقهون .

وقد كان أكثر قسم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أقسم أن يقول : لا والذي نفس محمد بيده وهذا لا يليق به النعمة وهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم يصدق كتاب الله . انتهى كلامه .

ولو ذكرنا كلام السلف في ذلك لطال جدا ، والأشعري في كتبه يصرح بإثبات الصفات الخبرية في كتبه كلها ، ومعلوم أن أحدا لا ينكر لفظها وإنما أنكروا حقائقها ومعانيها الظاهرة ، وكلام الأشعري موجود في الإبانة والموجز والمقالات وموجود في تصانيف أئمة أصحابه وأجلهم على الإطلاق القاضي أبو بكر بن أبي الطيب ، وقد ذكر ذلك في كتاب الإبانة والتمهيد وغيرهما وذكره ابن فورك فيما جمعه من كلام ابن كلاب وكلام الأشعري ، وذكره البيهقي في الأسماء والصفات والاعتقاد ، وذكره القشيري في كتاب الشكاية له ، وذكره ابن عساكر في كتابه تبيين كذب المفتري ، حتى ابن الخطيب والسيف الآمدي حكوا ذلك عن الأشعري ، وأنه أثبت اليدين صفة لله ، ولكن غلطوا حيث ظنوا أن له قولين في ذلك ، وهذه كتبه كلها ليس فيها إلا الإثبات ، فهو الذي يحكيه عن أهل السنة وينصره ، ويحكي خلافه عن الجهمية والمعتزلة .

نعم كان قبل ذلك يقول بقول المعتزلة ثم رجع عنه وصرح بخلافهم واستمر على ذلك حتى مات .

[ ص: 404 ] قال الأشعري في كتابه الذي ذكر ابن عساكر أنه آخر كتبه وعليه اعتمد في ذكره مناقبه واعتقاده ، قال : فإن سألنا سائل فقال : ما تقولون إن لله يدين ؟ قيل : نعم ، نقول ذلك لقوله تعالى : ( يد الله فوق أيديهم ) ولقوله صلى الله عليه وسلم : " خلق الله آدم بيده وغرس جنة طوبى بيده " ، وقال تعالى : ( بل يداه مبسوطتان ) وفي الحديث : " كلتا يديه يمين " وليس يجوز في لسان العرب ولا في عادة أهل الخطاب أن يقولوا لقائل : عملت كذا وكذا بيدي ، هو بمعنى النعمة ، إذا كان الله خاطب العرب بلغاتها ، وما تجده مفهوما في كلامها ومعقولا في خطابها ، وإذ لا يجوز في خطابها أن يقول القائل : فعلت بيدي ويعني النعمة ، بطل أن يكون معنى بيدي النعمة وساق الكلام في إنكار هذا التأويل وأطاله جدا وقرر أن لفظ اليدين على حقيقته وظاهره ، وبين أن اللغة التي أنزل بها القرآن لا تحتمل ما تأولت الجهمية .

وقال لسان أصحابه وأجلهم ابن الطيب في كتاب التمهيد وهو أشهر كتبه : فإن قال القائل : فما الحجة في أن لله وجها ويدين قيل له : قوله تعالى : ( ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ) وقوله : ( ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ) فأثبت لنفسه وجها ويدين ، فإن قالوا : بم أنكرتم أن يكون المعنى خلقت بيدي أنه خلقه بقدرته أو بنعمته لأن اليدين في اللغة تكون بمعنى النعمة وبمعنى القدرة كما يقال : لفلان عندي يد بيضاء ، وهذا شيء في يد فلان ، وتحت يده ، ويقال رجل أيد إذا كان قادرا ، كما قال تعالى : ( خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما ) يريد عملنا بقدرتنا ، وقال الشاعر :

إذا ما راية رفعت لمجد     تلقاها عرابة باليمين

وكذلك قوله : ( خلقت بيدي ) يعني بقدرته ونعمته ، قال : فيقال له : هذا باطل ، إذ قوله بيدي يقتضي إثبات يدين هما صفة له ، فلو كان المراد بهما القدرة لوجب أن يكون له قدرتان ، وأنتم تزعمون أن لله تعالى قدرة واحدة فكيف يجور أن تثبتوا قدرتين وقد أجمع المسلمون المثبتون للصفات والنافون لها على أنه لا يجور أن يكون لله تعالى قدرتان فبطل ما قلتم .

وكذلك لا يجوز أن يكون خلق الله آدم بنعمتين ; لأن نعم الله تعالى على آدم وغيره لا تحصى ; ولأن القائل لا يجور أن يقول : رفعت الشيء أو وضعته بيدي أو توليته بيدي وهو يريد نعمته ، وكذلك لا يجور أن يقال لي : عند فلان يدان يعني [ ص: 405 ] نعمتين ، وإنما يقال : لي عنده يداه بيضاوان ; ولأن فعلته بيدي لا يستعمل إلا في اليد التي هي صفة الذات .

ويدل على فساد تأويلهم أيضا أنه لو كان الأمر على ما قالوه لم يغفل عن ذلك إبليس وأن يقول : وأي فضللآدم علي يقتضي له وأنا أيضا بيدك خلقتني ، وفي العلم بأن الله تعالى فضل آدم عليه بخلقه بيديه دليل على فساد ما قالوه .

فإن قال القائل : فما أنكرتم أن تكون يده ووجهه جارحة إذ كنتم لا تعقلون يدا ووجها هما صفة غير الجارحة ؟ قلنا : لا يجب ذلك كما لا يجب إذا لم نعقل حيا عالما قادرا إلا جسما أن نقضي نحن وأنتم ذلك على الله ، وكما لا يجب إذا كان قائما بذاته أن يكون جوهرا لأنا وإياكم لم نجد قائما بنفسه في شاهدنا إلا كذلك ، الجواب لهم أن قالوا : فيجب أن يكون علمه وكلامه وحياته وسائر صفات ذاته أعراضا وأجساما وأجناسا أو حوادث أو أغيارا له تعالى ومحتاجة إلى قلب ، ولو تتبعنا القول عن أهل السنة لزادت على المائتين .

التالي السابق


الخدمات العلمية