الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الوجه العاشر : أن الاستيلاء والاستواء لفظان متغايران ، ومعنيان مختلفان فحمل أحدهما على الآخر إن ادعي أنه بطريق الوضع فكذب ظاهر ، فإن العرب لم تضع لفظ الاستواء للاستيلاء البتة ، وإن كان بطريق الاستعمال في لغتهم فكذب أيضا ، فهذا نظمهم ونثرهم شاهد بخلاف ما قالوه ، فتتبع لفظ استوى ومواردها في القرآن والسنة وكلام العرب هل تجدها في موضع واحد بمعنى الاستيلاء ؟ اللهم إلا أن يكون ذلك البيت المصنوع المختلق ، وإن كان بطريق المجاز القياسي فهو إنشاء من المتكلم بهذا الاستعمال فلا يجوز أن يحمل عليه كلام غيره من الناس فضلا عن كلام الله وكلام رسول صلى الله عليه وسلم ، يوضحه :

الوجه الحادي عشر : أن القائل بأن معنى استوى بمعنى استولى شاهد على الله أنه أراد بكلامه هذا المعنى ، وهذه شهادة لا علم لقائلها بمضمونها ، بل هي قول على الله بلا علم ، فلو كان اللفظ محتملا لها في اللغة وهيهات ، لم يجز أن يشهد على الله أنه أراد هذا المعنى بخلاف من أخبر عن الله تعالى أنه أراد الحقيقة والظاهر ، فإنه شاهد بما أجرى الله سبحانه عادته من خطاب خلقه بحقائق لغاتهم وظواهرها كما قال : ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ) فإذا كان الاستواء في لغة العرب معلوما كان هو المراد لكون الخطاب بلسانهم ، وهو المقتضي لقيام الحجة عليهم ، فإذا خاطبهم بغير ما يعرفونه كان بمنزلة خطاب العربي بالعجمية .

الوجه الثاني عشر : أن الإجماع منعقد على أن الله سبحانه استوى على عرشه حقيقة لا مجازا ، قال الإمام أبو عمر الطلمنكي ، أحد أئمة المالكية ، وهو شيخ أبي عمر ابن عبد البر في كتابه الكبير الذي سماه ( الوصول إلى معرفة الأصول ) فذكر فيه من أقوال الصحابة والتابعين وتابعهم ، وأقوال مالك وأئمة أصحابه ما إذا وقف عليه الواقف ، علم حقيقة مذهب السلف ، وقال في هذا الكتاب : أجمع أهل السنة على أن الله تعالى على عرشه على الحقيقة لا على المجاز .

[ ص: 377 ] الوجه الثالث عشر : قال الإمام أبو عمر بن عبد البر في كتاب ( التمهيد ) في شرح حديث النزول : وفيه دليل على أن الله تعالى في السماء على العرش من فوق سبع سماوات كما قالت الجماعة ، وقرر ذلك ، إلى أن قال : وأهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة في القرآن والسنة والإيمان بها ، وحملها على الحقيقة لا على المجاز ، إلا أنهم لا يكيفون شيئا من ذلك ولا يجدون فيه صفة مخصوصة ، وأما أهل البدع الجهمية والمعتزلة والخوارج ، فكلهم ينكرها ولا يحمل شيئا منها على الحقيقة ويزعمون أن من أقر بها مشبه ، وهم عند من أقر بها نافون للمعبود .

قال أبو عبد الله القرطبي في تفسيره المشهور في قوله : ( الرحمن على العرش استوى ) هذه المسألة للفقهاء فيها كلام ، ثم ذكر قول المتكلمين ، ثم قال : وقد كان السلف الأول لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك ، بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى كما نطق في كتابه ، وأخبرت به رسله ، ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة ، وإنما جهلوا كيفية الاستواء ، كما قال مالك : الاستواء معلوم والكيف مجهول .

الوجه الرابع عشر : أن الجهمية لما قالوا إن الاستواء مجاز صرح أهل السنة بأنه مستو بذاته على عرشه ، وأكثر من صرح بذلك أئمة المالكية ، فصرح به الإمام أبو محمد بن أبي زيد في ثلاثة مواضع من كتبه أشهرها الرسالة ، وفي كتاب جامع النوادر ، وفي كتاب الآداب ، فمن أراد الوقوف على ذلك فهذه كتبه .

وصرح بذلك القاضي عبد الوهاب وقال : إنه استوى بالذات على العرش ، وصرح به القاضي أبو بكر الباقلاني ، وكان مالكيا ، حكاه عنه القاضي عبد الوهاب أيضا ، وصرح به عبد الله القرطبي في كتاب شرح أسماء الله الحسنى ، فقال : ذكر أبو بكر الحضرمي من قول الطبري ، يعني محمد بن جرير ، وأبي محمد بن أبي زيد وجماعة من شيوخ الفقه والحديث ، وهو ظاهر كتاب القاضي عبد الوهاب عن القاضي أبي بكر ، وأبي الحسن الأشعري ، وحكاه القاضي عبد الوهاب عن القاضي أبي بكر نصا ، وهو أنه سبحانه مستو على عرشه بذاته ، وأطلقوا في بعض الأماكن فوق خلقه ، قال : وهذا قول القاضي أبي بكر في تمهيد الأوائل له ، وهو قول أبي عمر بن عبد البر والطلمنكي وغيرهما من الأندلسيين ، وقول الخطابي في شعار الدين .

[ ص: 378 ] وقال أبو بكر محمد بن موهب المالكي في شرح رسالة ابن أبي زيد قوله : إنه فوق عرشه المجيد بذاته ، معنى فوق وعلى ، عند جميع العرب واحد .

وفي كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم تصديق ذلك ، ثم ذكر النصوص من الكتاب والسنة ، واحتج بحديث الجارية وقول النبي صلى الله عليه وسلم : " أين الله ؟ " وقولها في السماء ، وحكمه بإيمانها ، وذكر حديث الإسراء ، ثم قال : وهذا قول مالك فيما فهمه عن جماعة ممن أدرك من التابعين فيما فهموا من الصحابة فيما فهموا عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله في السماء بمعنى فوقها وعليها ، قال الشيخ أبو محمد : إنه بذاته فوق عرشه المجيد .

فتبين أن علوه على عرشه وفوقه إنما هو بذاته إلا أنه باين من جميع خلقه بلا كيف ، وهو في كل مكان من الأمكنة المخلوقة بعلمه لا بذاته ، إذ لا تحويه الأماكن لأنه أعظم منها . . . إلى أن قال : قوله ( على العرش استوى ) إنما معناه عند أهل السنة على غير الاستيلاء والقهر والغلبة والملك ، الذي ظنت المعتزلة ومن قال بقولهم أنه معنى الاستواء ، وبعضهم يقول : إنه على المجاز لا على الحقيقة .

قال : ويبين سوء تأويلهم في استوائه على عرشه على غير ما تأولوه من الاستيلاء وغيره ما قد علمه أهل المعقول أنه لم يزل مستوليا على جميع مخلوقاته بعد اختراعه لها ، وكان العرش وغيره في ذلك سواه ، فلا معنى تأويلهم بأفراد العرش بالاستواء الذي هو في تأويلهم الفاسد استيلاء ، وملك وقهر وغلبة ، قال : وذلك أيضا يبين أنه على الحقيقة بقوله : ( ومن أصدق من الله قيلا ) فلما رأى المصنفون إفراد ذكره بالاستواء على العرش بعد خلق السماوات وأرضه وتخصيصه بصفة الاستواء علموا أن الاستواء غير الاستيلاء فأقروا بوصفه بالاستواء على عرشه وأنه على الحقيقة لا على المجاز ، لأنه الصادق في قيله ، ووقفوا عن تكييف ذلك وتمثيله إذ ( ليس كمثله شيء ) هذا لفظه في شرحه .

الوجه الخامس عشر : أن الأشعري حكى إجماع أهل السنة على بطلان تفسير الاستواء بالاستيلاء ، ونحن نذكر لفظه بعينه الذي حكاه عنه أبو القاسم بن عساكر في كتاب ( تبيين كذب المفتري ) وحكاه يقبله أبو بكر بن فورك وهو موجود في كتبه .

قال في كتاب الإبانة ، وهي آخر كتبه ، قال : [ ص: 379 ] ( باب ذكر الاستواء ) إن قال قائل : ما تقولون في الاستواء ؟ قيل : نقول له : إن الله تعالى مستو على عرشه كما قال تعالى : ( الرحمن على العرش استوى ) وساق الأدلة على ذلك ، ثم قال : وقال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية إن معنى قوله : ( الرحمن على العرش استوى ) أنه استولى وملك وقهر ، وجحدوا أن يكون الله على عرشه كما قال أهل الحق ، وذهبوا في الاستواء إلى القدرة ، ولو كان هذا كما قالوا كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة السفلى ، لأن الله تعالى قادر على كل شيء والأرض والسماوات وكل شيء في العالم ، فلو كان الله مستويا على العرش بمعنى الاستيلاء والقدرة لكان مستويا على الأرض والحشوش والأنتان والأقذار لأنه قادر على الأشياء كلها ، ولم نجد أحدا من المسلمين يقول : إن الله مستو على الحشوش والأخلية ، فلا يجوز أن يكون معنى الاستواء على العرش على معنى هو عام في الأشياء كلها ، ووجب أن يكون معنى الاستواء يختص بالعرش دون سائر الأشياء ، وهكذا قال في كتابه الموجز وغيره من كتبه .

الوجه السادس عشر : أن هذا البيت محرف وإنما هو هكذا :


بشر قد استولى على العراق

هكذا لو كان معروفا من قائل معروف ، فكيف وهو غير معروف في شيء من دواوين العرب وأشعارهم التي يرجع إليها .

الوجه السابع عشر : أنه لو صح هذا البيت وصح أنه غير محرف لم يكن فيه حجة بل هو حجة عليهم ، وهو على حقيقة الاستواء ، فإن بشرا هذا كان أخا عبد الملك بن مروان ، وكان أميرا على العراق ، فاستوى على سريرها كما هي عادة الملوك ونوابها أن يجلسوا فوق سرير الملك مستوين عليه ، وهذا هو المطابق لمعنى هذه اللفظة في اللغة كقوله تعالى : ( لتستووا على ظهوره ) وقوله : ( واستوت على الجودي ) وقوله : ( فاستوى على سوقه ) وفي الصحيح " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا استوى على بعيره خارجا إلى سفر كبر ملبيا " وقال علي : أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بدابة [ ص: 380 ] ليركبها فلما وضع رجله في الغرز قال باسم الله ، فلما استوى على ظهرها قال : الحمد لله ، فهل نجد في هذه المواضع موضعا واحدا أنه بمعنى الاستيلاء والقهر .

الوجه الثامن عشر : أن استواء الشيء على غيره يتضمن استقراره وثباته وتمكنه عليه كما قال تعالى في السفينة : ( واستوت على الجودي ) أي رست عليه واستقرت على ظهره ، وقال تعالى : ( لتستووا على ظهوره ) وقال في الزرع : ( فاستوى على سوقه ) ، فإنه قبل ذلك يكون فيه ميل واعوجاج لأجل ضعف سوقه ، وإذا استغلظ الساق واشتدت السنبلة استقرت ، ومنه :


قد استوى بشر على العراق

فإنه يتضمن استقراره وثباته عليها ودخوله دخول مستقر ثابت غير مزلزل ، وهذا يستلزم الاستيلاء أو يتضمنه ، فالاستيلاء لازم معنى الاستواء لا في كل موضع ، بل في الموضع الذي يقتضيه ، ولا يصلح الاستيلاء في كل موضع يصلح فيه الاستواء ، بل هذا له موضع ، وهذا له موضع ، ولهذا لا يصلح أن يقال : استولت السنبلة على ساقها ، ولا استولت السفينة على الجبل ، ولا استولى الرجل على السطح إذا ارتفع فوقه .

الوجه التاسع عشر : أنه لو كان المراد بالبيت استيلاء القهر والملك لكان المستوي على العراق عبد الملك بن مروان ، لا أخوه بشر ، فإن بشرا لم يكن ينازع أخاه الملك ولم يكن ملكا مثله ، وإنما كان نائبا له عليها وواليا من جهته ، فالمستولي عليها هو عبد الملك لا بشر ، بخلاف الاستواء الحقيقي وهو الاستقرار فيها والجلوس على سريرها ، فإن نواب الملوك تفعل هذا بإذن الملوك .

الوجه العشرون : أنه لا يقال لمن استولى على بلدة ولم يدخلها ولم يستقر فيها بل بينه وبينها بعد كثير : أنه قد استوى عليها ، فلا يقال : استوى أبو بكر على الشام ، ولا استوى عمر على مصر والعراق ، ولا قال أحد قط : استوى رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليمن ، مع أنه استولى عليها خلفاؤه على هذه البلاد ، ولم يزل الشعراء يمدحون الملوك والخلفاء بالفتوحات ، ويتوسعون في نظمهم واستعاراتهم ، فلم يسمع عن قديم منهم ، [ ص: 381 ] جاهلي ولا إسلامي ولا محدث أنه مدح أحدا قط أنه استوى على البلد الفلاني الذي فتحه واستولى عليه ، فهذه دواوينهم وأشعارهم موجودة .

الوجه الحادي والعشرون : أنه إذا دار الأمر بين تحريف لغة العرب وحمل لفظها على معنى لم يعهد استعماله فيه البتة ، وبين حمل المضاف المألوف حذفه كثيرا إيجارا واختصارا ، فالحمل على حذف المضاف أولى ، وهذا البيت كذلك ، فإنا إن حملنا لفظ استوى فيه على استولى حملناه على معنى لم يعهد استعماله فيه البتة ، وإن حملناها على حذف المضاف وتقديره قد استوى على سرير العراق حملناه على معهود مألوف ، فيقولون : قعد فلان على سرير الملك ، فيذكرون المضاف إيضاحا وبيانا ، ويحذفون تارة إيجازا واختصارا ، إذ قد علم المخاطب أن القعود والاستواء والجلوس الذي يضاف ويقصد به الملك يستلزم سرير الملك ، فحذف المضاف أقرب إلى لغة القوم من تحريف كلامهم ، وحمل لفظ على معنى لفظ آخر لم يعهد استعماله فيه .

الوجه الثاني والعشرون : أنه كيف يجوز أن ينزل الله بآيات متعددات في كتابه الذي أنزله بلسان العرب ، ويكون معنى ذلك الخطاب مشهورا على لغتهم معروفا في عادة نظامهم ، فلا يريد ذلك المعنى ويأتي بلفظ يدل على خلافه ويطرد استعماله في موارده كلها بذلك اللفظ الذي لم يرد معناه ، ولا يذكر في موضع واحد باللفظ الذي يريد معناه ، فمن تصور هذا جزم ببطلانه وإحالة نسبته إلى من قصده البيان والهدى .

الوجه الثالث والعشرون : أنه لو أريد ذلك المعنى المجازي لذكر في اللفظ قرينة تدل عليه ، فإن المجاز إن لم يقترن به قرينة وإلا كانت دعواه باطلة لأنه خلاف الأصل ولا قرينة معه ، ومعلوم أنه ليس في موارد الاستواء في القرآن والسنة موضع واحد قد اقترنت به قرينة تدل على المجاز ، فكيف إذا كان السياق يقتضي بطلان ما ذكر من المجاز ، وأن المراد هو الحقيقة .

التالي السابق


الخدمات العلمية