الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 396 ] الوجه الثالث عشر : أن الله تعالى أنكر على اليهود نسبة يده إلى النقص والعيب ولم ينكر عليهم إثبات اليد له تعالى فقال : ( وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ) فلعنهم على وصف يده بالعيب دون إثبات يده وقدر إثباتها به زيادة على ما قالوه بأنهما يدان مبسوطتان ، وبهذا يعلم تلبيس الجهمية المعطلة على أشباه الأنعام حيث قالوا إن الله لعن اليهود على إثبات اليد له سبحانه ، وأنهم مشبهة وهم أئمة المشبهة ، فتأمل هذا الكذب من هذا القائل والتلبيس ، وأن الآية صريحة بخلاف قوله .

الوجه الرابع عشر : أن يد القدرة لا يعرف في الاستعمال أن يقال فيها : يد فلان كذا هكذا ، فضلا عن أن يقال : فعل هذا بيمينه ، فضلا عن أن يقال : فعله بيديه ، فضلا عن أن يقال : فعله بيمينه ، وإنما المستعمل في يد القدرة والنعمة أن تكون مجردة عن الإضافة وعن التثنية وعن نسبة الفعل إليها ، فيقال : لفلان عندي يد ، ولولا يد له عندي ، ولا يكادون يقولون يده أو يداه عندي ، وله عندي يده ويداه ، يوضحه :

الوجه الخامس عشر : أن اليد حيث أريد بها النعمة أو القدرة فلا بد أن يقترن باللفظ ما يدل على ذلك ليحصل المراد ، فأما أن تطلق ويراد بها ذلك فهذا لا يجوز كما إذا أطلق البحر والأسد وادعى بذلك أنه أريد به الرجل الجواد والشجاع ، فهذا لا يجيزه عاقل ، ولا يتكلم به إلا من قصده التلبيس والتعمية ، وحيث أراد تلك المعاني فإنه يأتي من القرائن بما يدل على مراده ، فأين معكم في قوله : ( لما خلقت بيدي ) و ( بل يداه مبسوطتان ) وقوله : " يقبض الله سماواته بيده والأرض باليد الأخرى " ، " فأقوم عن يمين ربي " ، وقوله : " فيوقف بين يدي الرحمن " ما يدل على إرادة المجاز .

الوجه السادس عشر : أن يد القدرة والنعمة لا يعرف استعمالها البتة إلا في حق من له يد حقيقة ، فهذه موارد استعمالها من أولها إلى آخرها مطردة في ذلك ، فلا يعرف العربي خلاف ذلك ، فاليد المضافة إلى الحي إما أن تكون يدا حقيقة أو مستلزمة للحقيقة ، وإما أن تضاف إلى من ليس له يد حقيقة ، وهو حي متصف بصفات الأحياء فهذا لا يعرف البتة .

وسر هذا أن الأعمال والأخذ والعطاء والتصرف لما كان باليد وهي التي تباشره عبروا بها عن الغاية الحاصلة بها ، وهذا يستلزم ثبوت أصل اليد حتى يصح استعمالها [ ص: 397 ] في مجرد القوة والنعمة والإعطاء ، فإذا انتفت حقيقة اليد امتنع استعمالها فيها فيما يكون باليد فثبوت هذا الاستعمال المجازي من أدل الأشياء على ثبوت الحقيقة ، فقوله تعالى في حق اليهود ( غلت أيديهم ) هو دعاء عليهم بغل اليد المتضمن للجبن والبخل ، وذلك لا ينفي ثبوت أيديهم حقيقة ، وكذلك قوله في المنافقين ( ويقبضون أيديهم ) كناية عن البخل ولا ينفي أن يكون لهم أيد حقيقة ، وكذلك قوله : ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط ) المراد به النهي عن البخل والتقتير والإسراف ، وذلك مستلزم لحقيقة اليد ، وكذلك قوله تعالى : ( أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح ) أي يتولى عقدها ، وهو إنما يعقدها بلسانه ، ولكن لا يقال ذلك إلا لمن له يد حقيقة ، وكذلك قوله : ( ولما سقط في أيديهم ) هو كناية عن الندم وتيقن التفريط والإضاعة بمنزلة من سقط منه الشيء فيحيل بينه وبينه ، وأتى في هذا بلفظ ( في ) دون ( من ) لأن الندم سقط في أيديهم وثبت فيها واستقر ، ولو قيل : سقط من أيديهم لم يدل على هذا المعنى ، وعين لفظ اليد لهذا المعنى لوجهين : أحدهما : أنه يقال لمن حصل له شيء وإن لم يقع في نفس يده حصل في يده كذا وكذا من الخير والشر ، كما يقال : كسبت يده وفعلت يده ، وإن كان لغيرها من الجوارح .

الوجه الثاني : أن الندم حدث يحصل في القلب وأثره يظهر في اليد ، لأن النادم يعض يديه تارة ، ويضرب إحداهما بالأخرى تارة ، قال تعالى : ( فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها ) وقال تعالى : ( ويوم يعض الظالم على يديه ) فلما كان أكثر الندم يظهر على اليد أضيف سقوط الندم إليها ; لأن الذي يظهر للعيان من فعل الندم هو تقليب الكف وعض الأنامل ، وأتى بهذا الفعل على بناء ما لم يسم فاعله إيهاما لشأن الفعل كقولهم : دهي فلان وأصيب بأمر عظيم .

والمقصود أن مثل ذلك لا يقال إلا لمن له يد حقيقة ، فإذا قيل : وسقط في يده عرف السائل أن هذا الكلام مستلزم لحقيقة اليد ، ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم : [ ص: 398 ] " أسرعكن لحوقا بي أطولكن يدا " فكن يخرجن أيديهن ليعلمن أيتهن أطول يدا ، فلما سبقتهن زينب إلى اللحاق به ولم تك يدها الذاتية أطول من أيديهن علمن أنه أراد طولها بالصدقة ، وكانت تسمى أم المساكين لكثرة صدقتها ، ومثل هذا اللفظ يحتمل المعنيين ، ولهذا فهم نساؤه منه وهن أفصح نساء العرب اليد الحقيقية ، حتى تبين لهن أخيرا أنه طولها بالصدقة ، وهذا من التعريض المباح بأن يذكر لفظا محتملا لمعنيين ومراده أحدهما ، كقوله : " نحن من ماء " ، وقوله : " ذاك الذي في عينيه بياض " ، وقوله : " الجنة لا يدخلها العجزة " ، وقول الصديق : هذا هاد يهديني السبيل ، ولكن لا يستعمل طول اليد بالصدقة إلا في حق من له يد ذاتية ، فسواء كان المراد بقوله : " أطولكن يدا " اليد الذاتية أو اليد المعنوية فهو مستلزم لثبوت يد الذات وإن أطلق على ما تباشره ويكون بها من الصدقة والإحسان ، فإن كان في اللفظ ما يعين ذلك فهو حقيقة في المراد ، وإن لم يكن في اللفظ ما يعينه فهو للكناية المستعملة في المصلحة ، فليس في ذلك ما ينفي حقيقة اليد لله بوجه من الوجوه .

فإن قيل : كيف تصنعون بيد الحائط في قولة لبيد :


إذ أصبحت بيد الشمال زمامها



وقول المتنبي :

وكم لظلام الليل عندي من يد     تخبر أن المانوية تكذب

وقد استعملت اليد في ذلك كله في مواضع حقيقة .

قيل : لا يلزمنا هذا السؤال لأنا قلنا : متى أضيفت يد القدرة والنعمة إلى الحي استلزمت اليد الحقيقية ، وهذا استعمال مطرد غير منتقض وهذا يتعين : بالوجه السابع عشر : وهو أن الإضافة في يد الشمال ويد الحائط ويد الليل بينت أن المضاف من [ ص: 399 ] جنس المضاف إليه ، والإضافة في البعير والفرس وغيرهما من الحيوان كذلك ، والإضافة في يد الملك والجن تبين أيضا أن يديهما من جنسيهما ، وكذلك الإضافة في يد الإنسان وكل ذلك حقيقة ، كذلك إضافة اليدين إلى الرحمة في قوله : ( بين يدي رحمته ) وإلى النجوى في قوله : ( بين يدي نجواكم صدقة ) فإن بين يدي الشيء أمامه وقدامه ، وهذا مما يتنوع فيه المضاف إليه وإن اختلفت ماهية الحقيقة وصفتها ، وتنوعت بتنوع المضاف إليه .

فإذا قيل : يد الله ووجهه ، وسمعه وبصره ، وحياته وعلمه ، وقدرته ومشيئته ، وإتيانه واستواؤه ، كان ذلك حقيقة والمضاف فيه بحسب المضاف إليه ، فإذا لم يكن المضاف إليه مماثلا لغيره لزم أن يكون المضاف كذلك ضرورة ، فدعوى لزوم التشبيه والتمثيل في إثبات المضاف حقيقة زعم كاذب ، فإن لزم من إثبات اليد حقيقة لله التمثيل والتشبيه لزم ذلك في إثبات سائر الصفات له حقيقة ، ويلزم ذلك في إثبات صفاته ، فإن الصفة القديمة متى أشبهت صفات المخلوقين لزم وقوع التشبيه بين الذاتين .

الوجه الثامن عشر : أن يقال : ما الذي يضركم من إثبات اليد حقيقة ، وليس معكم ما ينفي ذلك من أنواع الأدلة لا نقليها ولا عقليها ولا ضروريها ولا نظريها ، فإن فررتم من الحقيقة خشية التشبيه والتمثيل ، ففروا من إثبات السمع والبصر والحياة والعلم والإرادة والكلام خشية هذا المحذور .

ثم يقال لكم : توهمكم لزوم التشبيه والتمثيل من إثبات هذه الصفة وغيرها وهم باطل ، وليس في المخلوقات يد تمسك السماوات والأرض وتطويها ، ويد تقبض الأرضين السبع ، ولا إصبع توضع عليها الأرض ، وإصبع توضع عليها الجبال ، فلو كان في المخلوقات يد وإصبع يد هذا شأنها لكان لكم عذر ما في توهم التشبيه والتمثيل من إثبات اليد والإصبع لله حقيقة ، وإنما هذا تلبيس منكم على ضعفاء العقول .

وإن فررتم خشية التجسيم والتركيب ففروا من سائر الصفات من أولها إلى آخرها لأجل هذا المحذور ، فإن ادعيتم أن التجسيم والتركيب يلزم مما فررتم منه دون ما لم تفروا منه ظهر بطلان دعواكم للعقلاء قاطبة ، فإن الصفات أعراض لا تقوم بنفسها ، وقيامها بمحلها مستلزم لما تدعون أنه تجسيم وتركيب .

[ ص: 400 ] ثم يقال لكم : ما تريدون بالتجسيم والتركيب اللازم ؟ أتريدون به ما تقوم به الصفات فكأنكم قلتم : لا تقوم به لأنها لو قامت به لزم قيامها به ، هذا حقيقة قولكم عند العقلاء ، فسويتم بين اللازم والملزوم ونفيتم الشيء بنفسه ، أم تريدون به التركيب من الجواهر الفردة أو من المادة والصورة فالملازمة ممنوعة ، وأكثر العقلاء على أن الأجسام المحدوثة غير مركبة لا من هذا ولا من هذا ، فكيف يلزم هذا من ثبوت الصفات للرب تعالى ، وإن أردتم مماثلته لسائر الأجسام فهذا بناء منكم على أصلكم الفاسد عند كافة العقلاء أن الأجسام متماثلة ، فادعيتم دعويين كاذبتين : لزوم التجسيم من إثبات صفاته ، ولزوم تماثل الأجسام .

والمقصود أن ما فررتم منه ، إن كان محذورا ، فهو غير لازم لإثبات الوجه واليد والسمع والبصر والعلو وسائر الصفات ، وإن لم يكن محذورا فلا وجه للفرار ، بل هو لازم إثبات الصفات الذي هو حق ، ولازم الحق حق ، فأنتم بين دعويين كاذبتين إحداهما دعوى ملازمة كاذبة ، أو دعوى انتفاء لازم الحق في ثبوته ، فإما أن تحيطوا به في المقدمة اللزومية أو في الاستثنائية أو فيهما ، وهذا مطرد في كل ما ادعيتم نفيه .

الوجه التاسع عشر : أن هذه الألفاظ كلفظ اليدين والوجه إما أن يكون لها معنى أو تكون ألفاظا مهملة لا معنى لها ، والثاني ظاهر الاستحالة وإذا لم يكن بد من إثبات معنى لها فلا ريب أن ذلك المعنى قدر زائد على الذات وله مفهوم غير مفهوم الصفة الأخرى ، فأي محذور لزم في إثبات حقيقة اليد لزم مثله في مجازها ، ولا خلاص لكم من ذلك إلا بإنكار أن يكون لها معنى أصلا ، وتكون ألفاظا مجردة ، فإن المعنى المجازي إما القدرة وإما الإحسان ، وهما صفتان قائمتان بالموصوف ، فإن كانتا حقيقيتين غير مستلزمين لمحذور فهلا حملتم اليد على حقيقتها وجعلتم الباب بابا واحدا ، وإن كانت مجازا وهو حقيقة قولكم فلا يد ولا قدرة ولا إحسان في الحقيقة وإنما ذلك مجاز محض ، والفرق بين هذا الوجه والذي قبله أن ذلك إلزام المجاز في الصفات التي وافقوا على أنها حقيقة وهذا إلزام نفي ما ادعوا أنه مجاز اليد ، فيلزمهم نفي ذلك كله إن استلزم تشبيها أو تجسيما ، أو إثبات الجميع إن لم يستلزم ذلك ، وأما كون بعض الصفات يستلزم التشبيه والتجسيم ، وبعضها لا يستلزمه ، فهذا غير معقول ولا معلوم بصورة ولا نظر ولا نص ولا قياس .

التالي السابق


الخدمات العلمية