الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 293 ]

                          باب اللفظ والنظم

                          فصل في المجاز الحكمي

                          فصل

                          هذا فن من المجاز لم نذكره فيما تقدم

                          بيان في المجاز الحكمي وأمثلته وهو كنز من كنوز البلاغة

                          347- اعلم أن طريق المجاز والاتساع في الذي ذكرناه قبل أنك ذكرت الكلمة وأنت لا تريد معناها، ولكن تريد معنى ما هو ردف له أو شبيه . فتجوزت بذلك في ذات الكلمة وفي اللفظ نفسه . وإذ قد عرفت ذلك فاعلم أن في الكلام مجازا على غير هذا السبيل، وهو أن يكون التجوز في حكم يجرى على الكلمة فقط، وتكون الكلمة متروكة على ظاهرها، ويكون معناها مقصودا في نفسه ومرادا من غير تورية ولا تعريض .

                          348- والمثال فيه قولهم : " نهارك صائم وليلك قائم " و " نام ليلي وتجلى همي " . وقوله تعالى : « فما ربحت تجارتهم » [ سورة البقرة : 16 ] وقول الفرزدق :


                          سقتها خروق في المسامع لم تكن علاطا ولا مخبوطة في الملاغم



                          [ ص: 294 ]

                          أنت ترى مجازا في هذا كله، ولكن لا في ذوات الكلم وأنفس الألفاظ، ولكن في أحكام أجريت عليها، أفلا ترى أنك لم تتجوز في قولك : " نهارك صائم وليلك قائم " في نفس " صائم " و " قائم " ولكن في أن أجريتهما خبرين على النهار والليل . وكذلك ليس المجاز في الآية في لفظة " ربحت " نفسها، ولكن في إسنادها إلى التجارة ، وهكذا الحكم في قوله : " سقتها خروق " ليس التجوز في نفس " سقتها " ولكن في أن أسندها إلى الخروق . أفلا ترى أنك لا ترى شيئا منها إلا وقد أريد به معناه الذي وضع له على وجهه وحقيقته، فلم يرد بصائم غير الصوم، ولا بقائم غير القيام ولا ب " ربحت " غير الربح، ولا ب " سقت " غير السقي كما أريد ب " سالت " في قوله :


                          وسالت بأعناق المطي الأباطح



                          غير السيل .

                          349- واعلم أن الذي ذكرت لك في المجاز هناك، من أن من شأنه أن يفخم عليه المعنى وتحدث فيه النباهة، قائم لك مثله هاهنا . فليس يشتبه على عاقل أن ليس حال المعنى وموقعه في قوله :


                          فنام ليلي وتجلى همي



                          كحاله وموقعه إذا أنت تركت المجاز وقلت : فنمت في ليلي وتجلى [ ص: 295 ] همي " كما لم يكن الحال في قولك : " رأيت أسدا " كالحال في " رأيت رجلا كالأسد " . ومن الذي يخفى عليه مكان العلو وموضع المزية وصورة الفرقان بين قوله تعالى : « فما ربحت تجارتهم » وبين أن يقال : " فما ربحوا في تجارتهم " ؟

                          350- وإن أردت أن تزداد للأمر تبينا، فانظر إلى بيت الفرزدق :


                          يحمي إذا اخترط السيوف نساءنا     ضرب تطير له السواعد أرعل



                          وإلى رونقه ومائه وإلى ما عليه من الطلاوة . ثم ارجع إلى الذي هو الحقيقة وقل : " نحمي إذا اخترط السيوف نساءنا بضرب تطير له السواعد أرعل " ثم اسبر حالك؟ هل ترى مما كنت تراه شيئا .

                          351- وهذا الضرب من المجاز على حدته كنز من كنوز البلاغة ومادة الشاعر المفلق والكاتب البليغ في الإبداع والإحسان والاتساع في طرق البيان . وأن يجيء بالكلام مطبوعا مصنوعا، وأن يضعه بعيد المرام قريبا من الأفهام . ولا يغرنك من أمره أنك ترى الرجل يقول : " أتى بي الشوق إلى لقائك وسار بي الحنين إلى رؤيتك وأقدمني بلدك حق لي على إنسان " وأشباه ذلك مما تجده لسعته وشهرته يجري مجرى الحقيقة التي لا يشكل أمرها، فليس هو كذلك أبدا، بل يدق ويلطف حتى يمتنع مثله إلا على الشاعر المفلق، والكاتب البليغ، وحتى يأتيك بالبدعة لم تعرفها والنادرة تأنق لها .

                          [ ص: 296 ]

                          352- وجملة الأمر أن سبيله سبيل الضرب الأول الذي هو مجاز في نفس اللفظ وذات الكلمة فكما أن من الاستعارة والتمثيل عاميا مثل : " رأيت أسدا " و " وردت بحرا " و " شاهدت بدرا " و " سل من رأيه سيفا ماضيا " . و خاصيا لا يكمل له كل أحد، مثل قوله :


                          وسالت بأعناق المطي الأباطح



                          كذلك الأمر في هذا المجاز الحكمي .

                          واعلم أنه ليس بواجب في هذا أن يكون للفعل فاعل في التقدير إذا أنت نقلت الفعل إليه عدت به إلى الحقيقة، مثل أنك تقول في « ربحت تجارتهم » [ سورة البقرة : 16 ] : ربحوا في تجارتهم وفي " يحمي نساءنا ضرب " : نحمي نساءنا بضرب، فإن ذلك لا يتأتى في كل شيء . ألا ترى أنه لا يمكنك أن تثبت للفعل في قولك : " أقدمني بلدك حق لي على إنسان " : فاعلا سوى الحق وكذلك لا تستطيع في قوله :


                          وصيرني هواك وبي     لحيني يضرب المثل



                          وقوله :


                          يزيدك وجهه حسنا     إذا ما زدته نظرا



                          [ ص: 297 ]

                          أن تزعم أن " لصيرني " فاعلا قد نقل عنه الفعل فجعل " للهوى " كما فعل ذلك في " ربحت تجارتهم " و " يحمي نساءنا ضرب " ولا تستطيع كذلك أن تقدر ل " يزيد " في قوله : " يزيدك وجهه " فاعلا غير الوجه . فالاعتبار إذا بأن يكون المعنى الذي يرجع إليه الفعل موجودا في الكلام على حقيقته .

                          معنى ذلك أن " القدوم " في قولك : " أقدمني بلدك حق لي على إنسان " موجود على الحقيقة، وكذلك الصيرورة في قوله : " وصيرني هواك " و " الزيادة " في قوله : " يزيدك وجهه " موجودتان على الحقيقة ، وإذا كان معنى اللفظ موجودا على الحقيقة، لم يكن المجاز فيه نفسه ، وإذا لم يكن المجاز في نفس اللفظ كان لا محالة في الحكم . فاعرف هذه الجملة وأحسن ضبطها، حتى تكون على بصيرة من الأمر .

                          354- ومن اللطيف في ذلك قول حاجز بن عوف :


                          أبي عبر الفوارس يوم داج     وعمي مالك وضع السهاما


                          فلو صاحبتنا لرضيت منا     إذا لم تغبق المائة الغلاما



                          [ ص: 298 ]

                          يريد إذا كان العام عام جدب وجفت ضروع الإبل وانقطع الدر حتى إن حلب منها مائة لم يحصل من لبنها ما يكون غبوق غلام واحد . فالفعل الذي هو " غبق " مستعمل في نفسه على حقيقته، غير مخرج عن معناه وأصله إلى معنى شيء آخر . فيكون قد دخله مجاز في نفسه ، وإنما المجاز في أن أسند إلى الإبل وجعل فعلا لها . وإسناد الفعل إلى الشيء حكم في الفعل وليس هو نفس معنى الفعل، فاعرفه .

                          ليس كل شيء يصلح للمجاز الحكمي بسهولة، ومثال ذلك

                          355- واعلم أن من سبب اللطف في ذلك أنه ليس كل شيء يصلح لأن يتعاطى فيه هذا المجاز الحكمي بسهولة، بل تجدك في كثير من الأمر، وأنت تحتاج إلى أن تهيئ الشيء وتصلحه لذلك بشيء تتوخاه في النظم . وإن أردت مثالا في ذلك فانظر إلى قوله :


                          تناس طلاب العامرية إذ نأت     بأسجح مرقال الضحى قلق الضفر


                          إذا ما أحسته الأفاعي تحيزت     شواة الأفاعي من مثلمة سمر


                          تجوب له الظلماء عين كأنها     زجاجة شرب غير ملأى ولا صفر



                          يصف جملا، ويريد أنه يهتدي بنور عينه في الظلماء، ويمكنه بها أن يخرقها ويمضي فيها . ولولاها لكانت الظلماء كالسد والحاجز الذي لا يجد شيئا [ ص: 299 ] يفرجه به، ويجعل لنفسه فيه سبيلا . فأنت الآن تعلم أنه لولا أنه قال : " تجوب له " فعلق " له " بـ " تجوب " لما صلحت " العين " لأن يسند " تجوب " إليها، ولكان لا تتبين جهة التجوز في جعل " تجوب " فعلا للعين كما ينبغي . وكذلك تعلم أنه لو قال مثلا : " تجوب له الظلماء عينه " لم يكن له هذا الموقع، ولاضطرب عليه معناه، وانقطع السلك من حيث كان يعيبه حينئذ أن يصف العين بما وصفها به الآن .

                          فتأمل هذا واعتبره . فهذه التهيئة وهذا الاستعداد في هذا المجاز الحكمي، نظير أنك تراك في الاستعارة التي هي مجاز في نفس الكلمة وأنت تحتاج في الأمر الأكثر إلى أن تمهد لها وتقدم أو تؤخر ما يعلم به أنك مستعير ومشبه، ويفتح طريق المجاز إلى الكلمة .

                          356- ألا ترى إلى قوله :


                          وصاعقة من نصله ينكفي بها     على أرؤس الأقران خمس سحائب



                          عنى بخمس السحائب، أنامله ولكنه لم يأت بهذه الاستعارة دفعة ولم يرمها إليك بغتة، بل ذكر ما ينبئ عنها، ويستدل به عليها، فذكر أن هناك صاعقة وقال : " من نصله " فبين أن تلك الصاعقة من نصل سيفه ثم قال : " على أرؤس الأقران " ثم قال : " خمس " فذكر " الخمس " التي هي عدد أنامل اليد، فبان من مجموع هذه الأمور غرضه .

                          وأنشدوا لبعض العرب :


                          فإن تعافوا العدل والإيمانا     فإن في أيماننا نيرانا



                          [ ص: 300 ]

                          يريد أن في أيماننا سيوفا نضربكم بها ، ولولا قوله أولا : " فإن تعافوا العدل والإيمان " وأن في ذلك دلالة على أن جوابه أنهم يحاربون ويقسرون على الطاعة بالسيف، ثم قوله : " فإن في أيماننا " لما عقل مراده، ولما جاز أن يستعير النيران للسيوف، لأنه كان لا يعقل الذي يريد، لأنا وإن كنا نقول : " في أيديهم سيوف تلمع كأنها شعل نار " كما قال :


                          ناهضتهم والبارقات كأنها     شعل على أيديهم تتلهب



                          فإن هذا التشبيه لا يبلغ مبلغ ما يعرف مع الإطلاق، كمعرفتنا إذا قال : " رأيت أسدا " أنه يريد الشجاعة . وإذا قال : " لقيت شمسا وبدرا " أنه يريد الحسن ولا يقوى تلك القوة فاعرفه .

                          ضرب مما طريق المجاز فيه هو " الحكم " ومثال وبيانه

                          358- ومما طريق المجاز فيه الحكم قول الخنساء :


                          ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت     فإنما هي إقبال وإدبار



                          وذاك أنها لم ترد بالإقبال والإدبار غير معناهما، فتكون قد تجوزت في نفس الكلمة ، وإنما تجوزت في أن جعلتها لكثرة ما تقبل وتدبر ولغلبة ذاك عليها واتصاله منها، وأنه لم يكن لها حال غيرهما كأنها قد تجسمت من الإقبال [ ص: 301 ] والإدبار . وإنما كان يكون المجاز في نفس الكلمة لو أنها كانت قد استعارت " الإقبال والإدبار " لمعنى غير معناهما الذي وضعا له في اللغة . ومعلوم أن ليس الاستعارة مما أرادته في شيء .

                          تنبيه على فساد من جعل هذا المجاز من باب ما حذف منه المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه

                          359- واعلم أن ليس بالوجه أن يعد هذا على الإطلاق معد ما حذف منه المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، مثل قوله عز وجل : « واسأل القرية » [ سورة يوسف : 82 ] ومثل قول النابغة الجعدي :


                          وكيف تواصل من أصبحت     خلالته كأبي مرحب



                          وقول الأعرابي :


                          حسبت بغام راحلتي عناقا     وما هي ويب غيرك بالعناق



                          وإن كنا نراهم يذكرونه حيث يذكرون حذف المضاف ويقولون : [ ص: 302 ] إنه في تقدير " فإنما هي ذات إقبال وإدبار " ذاك لأن المضاف المحذوف من نحو الآية والبيتين، في سبيل ما يحذف من اللفظ ويراد في المعنى، كمثل أن يحذف خبر المبتدأ والمبتدأ، إذا دل الدليل عليه إلى سائر ما إذا حذف كان في حكم المنطوق به.

                          وليس الأمر كذلك في بيت الخنساء، لأنا إذا جعلنا المعنى فيه الآن كالمعنى إذا نحن قلنا : " فإنما هي ذات إقبال وإدبار " أفسدنا الشعر على أنفسنا وخرجنا إلى شيء مغسول، وإلى كلام عامي مرذول . وكان سبيلنا سبيل من يزعم مثلا في بيت المتنبي :


                          بدت قمرا ومالت خوط بان     وفاحت عنبرا ورنت غزالا



                          أنه في تقدير محذوف، وأن معناه الآن كالمعنى إذا قلت : " بدت مثل قمر ومالت مثل خوط بان، وفاحت مثل عنبر، ورنت مثل غزال " في أنا نخرج إلى الغثاثة وإلى شيء يعزل البلاغة عن سلطانها، ويخفض من شأنها، ويصد أوجهنا عن محاسنها، ويسد باب المعرفة بها وبلطائفها علينا .

                          فالوجه أن يكون تقدير المضاف في هذا على معنى أنه لو كان الكلام قد جيء به على ظاهره ولم يقصد إلى الذي ذكرنا من المبالغة والاتساع، وأن تجعل الناقة كأنها قد صارت بجملتها إقبالا وإدبارا حتى كأنها قد تجسمت منهما، لكان حقه حينئذ أن يجاء فيه بلفظ " الذات " فيقال : " إنما هي ذات إقبال وإدبار " . فأما أن يكون الشعر الآن موضوعا على إرادة ذلك وعلى تنزيله منزلة المنطوق به حتى يكون الحال فيه كالحال في :

                          [ ص: 303 ]


                          حسبت بغام راحلتي عناقا



                          حين كان المعنى والقصد أن يقول : " حسبت بغام راحلتي بغام عناق " . فمما لا مساغ له عند من كان صحيح الذوق صحيح المعرفة نسابة للمعاني .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية