[ ص: 291 ]
فصل
الآفة العظمى في ترك البحث عن العلة التي توجب المزية في الكلام
344- واعلم أنه لا يصادف القول في هذا الباب موقعا من السامع ولا يجد لديه قبولا، حتى يكون من أهل الذوق والمعرفة، وحتى يكون ممن تحدثه نفسه بأن لما يومئ إليه من الحسن واللطف أصلا، وحتى يختلف الحال عليه عند تأمل الكلام فيجد الأريحية تارة، ويعرى منها أخرى ، وحتى إذا عجبته عجب، وإذا نبهته لموضع المزية انتبه .
فأما من كان الحالان والوجهان عنده أبدا على سواء، وكان لا يتفقد من أمر " النظم " إلا الصحة المطلقة وإلا إعرابا ظاهرا، فما أقل ما يجدي الكلام معه . فليكن من هذه صفته عندك بمنزلة من عدم الإحساس بوزن الشعر، والذوق الذي يقيمه به، والطبع الذي يميز صحيحه من مكسوره، ومزاحفه من سالمه، وما خرج من البحر مما لم يخرج منه في أنك لا تتصدى له، ولا تتكلف تعريفه لعلمك أنه قد عدم الأداة التي معها يعرف والحاسة التي بها يجد . فليكن قدحك في زند وار، والحك في عود أنت تطمع منه في نار .
345- واعلم أن هؤلاء وإن كانوا هم الآفة العظمى في هذا الباب، فإن من الآفة أيضا من زعم أنه لا سبيل إلى معرفة العلة في قليل ما تعرف المزية [ ص: 292 ] فيه وكثيره، وأن ليس إلا أن تعلم أن هذا التقديم وهذا التنكير أو هذا العطف أو هذا الفصل حسن . وأن له موقعا من النفس وحظا من القبول . فأما أن تعلم لم كان كذلك؟ وما السبب؟ فمما لا سبيل إليه، ولا مطمع في الاطلاع عليه، فهو بتوانيه والكسل فيه، في حكم من قال ذلك .
346- واعلم أنه ليس إذا لم تمكن معرفة الكل، وجب ترك النظر في الكل . وأن تعرف العلة والسبب فيما يمكنك معرفة ذلك فيه، وإن قل فتجعله شاهدا فيما لم تعرف أحرى من أن تسد باب المعرفة على نفسك وتأخذها عن الفهم والتفهم، وتعودها الكسل والهوينا . قال : " وكلام كثير قد جرى على ألسنة الناس، وله مضرة شديدة وثمرة مرة . فمن أضر ذلك قولهم : " لم يدع الأول للآخر شيئا " . قال : فلو أن علماء كل عصر مذ جرت هذه الكلمة في أسماعهم، تركوا الاستنباط لما لم ينته إليهم عمن قبلهم، لرأيت العلم مختلا " . الجاحظ
واعلم أن العلم إنما هو معدن، فكما أنه لا يمنعك أن ترى ألوف وقر قد أخرجت من معدن تبر، أن تطلب فيه، وأن تأخذ ما تجد ولو كقدر تومة، كذلك ينبغي أن يكون رأيك في طلب العلم. ومن الله تعالى نسأل التوفيق .