الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 566 ]

                          -4-

                          فصل

                          565 - إذا قلت : "هذا ينحت من صخر ، وذاك يغرف من بحر" ، لم تكن شبهت قيل الشعر بالنحت والغرف ، ولكن تكون قد شبهت هذا في صعوبة قول الشعر عليه ، وفي احتياجه إلى أن يكد نفسه بمن ينحت من الصخر- وشبهت الآخر في سهولة قوله عليه ، وفي أنه يناله عفوا ، بمن يغرف من بحر.

                          يبين ذلك : أن ليس الشبه بوصف يرجع إلى "النحت" و "الغرف" من حيث هما نحت وغرف، ولكن الشبه من حيث كان يشق على هذا ويسهل على ذاك . وإذا كان كذلك ، كان المعنى على تشبيه الذي يحتاج إلى أن يكد النفس بالذي ينحت الصخر ، والذي يسهل عليه ويأتيه عفوا بالذي يغرف من بحر ، لا على تشبيه قول الشعر في نفسه من حيث هو قول شعر وتأليف كلام وإقامة وزن وقافية ، بالنحت والغرف ، هذا محال.

                          ثم إن المزية التي تجدها لترك التصريح بالتشبيه ، وأنك لم تقل : "هو كمن ينحت من صخر" ، ليست لأنك لما قلت : "هو ينحت من صخر" جعلته أشبه بالناحت من الصخر ، ولكن بأنك جعلت شبه الناحت من الصخر له أثبت ، فاعرفه.

                          [ ص: 567 ]

                          - 5 -

                          “مسألة"

                          657 - قال النمري في قوله في الحماسة :


                          لنا إبل لم تهن ربها كرامتها والفتى ذاهب



                          "يقول : لم يكرمها فتهينه كرامتها ، قال : وهذا كقولك : "لم تبذلني صيانة مالي" ، أي لم أصنه فأبتذل ، لا أنه أكرمها فلم يهنه ذاك . قال ومثله قول النابغة :


                          مثل الزجاجة ، لم تكحل من الرمد



                          أي : لم ترمد فتكحل منه.

                          قال الشيخ الإمام : الأولى أن يكون المعنى : لم تمنعنا كرامتها أن ننحرها للأضياف ونسخو بها . ونظر هو إلى ما جرت به العادة من أن يقال في وصف الجواد : إنه لا خطر للمال عنده . وذلك وإن كان معروفا من كلام الناس ، فإنهم يقولونه على معنى أنه كأنه من حيث الحمد والذكر الجميل ، لا يكون النفيس من المال عنده نفيسا ، وأنه يبذله بذل الشيء الذي لا يكون له قيمة . وإنهم ليخرجون [ ص: 568 ]

                          لطلب المبالغة في ذلك إلى أن يزعموا أنه يبغض المال ويريد هلاكه ، وأنه يطلبه بترة ، وأنه حنق عليه كما قال :


                          حنق على بدر اللجين



                          وكل ذلك على تقدير "كأن" . وإلا فلو كان الأمر على الظاهر ، لكان ذلك يخرج به إلى أن لا يستحق على بذله الحمد ، ولكان يكون ذلك للجهالة بنفاسة النفيس . ومن كان إعطاؤه المال على هذا السبيل ، كان مؤوفا . ولهذا قال الفضل بن يحيى : "أيظن الناس أنا لا نجد بأموالنا ما يجد البخلاء؟ " . ولو كان لا يكون النفيس من المال نفيسا عند جواد ، لكان قولهم : "إنه يشتري الحمد بالغلاء" ، محالا ، لأنه لا يكون المشتري الشيء غاليا حتى يبذل فيه من المال ما يكون له خطر عظيم عنده . هذا ويجوز أن يكون المعنى في قوله : "كرامتها" ، نفاستها في أنفسها ، وأن لا تقدر فيه التعدية ، وأن يقال : "كرامتها علينا أو عليه ، أي على ربها" كما يقولون : يهينون كرائم أموالهم لأضيافهم ، ولا تهينهم بأن تدعوهم إلى الضن بها ، فتورثهم الهون والسقوط في أقدارهم ، فاعرفه.

                          هذا آخر ما وجد على سواد الشيخ من هذا الكتاب .

                          كتب في شعبان المبارك سنة ثنتين وسبعين وخمسمائة

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية