الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          الوجوه التي تكون للكلام مزية

                          528- وإذ قد بان سقوط ما اعترض به القوم وفحش غلطهم . فينبغي أن تعلم أن ليست المزايا التي تجدها لهذه الأجناس على الكلام المتروك على ظاهره، والمبالغة التي تحسها في أنفس المعاني التي يقصد المتكلم بخبره إليها، ولكنها في طريق إثباته لها وتقريره إياها، وأنك إذا سمعتهم يقولون : إن من [ ص: 447 ] شأن هذه الأجناس أن تكسب المعاني مزية وفضلا وتوجب لها شرفا ونبلا، وأن تفخمها في نفوس السامعين " فإنهم لا يعنون أنفس المعاني، كالتي يقصد المتكلم بخبره إليها، كالقرى والشجاعة والتردد في الرأي وإنما يعنون إثباتها لما تثبت له ويخبر بها عنه . فإذا جعلوا للكناية مزية على التصريح لم يجعلوا تلك المزية في المعنى المكني عنه، ولكن في إثباته للذي يثبت له . وذلك أنا نعلم أن المعاني التي يقصد الخبر بها لا تتغير في أنفسها بأن يكنى عنها بمعان سواها، ويترك أن تذكر بالألفاظ التي هي لها في اللغة . ومن هذا الذي يشك أن معنى طول القامة وكثرة القرى لا يتغيران بأن يكنى عنهما بطول النجاد وكثرة رماد القدر، وتقدير التغيير فيهما يؤدي إلى أن لا تكون الكناية عنهما ولكن عن غيرهما ؟

                          529- وقد ذكرت هذا في صدر الكتاب، وذكرت أن السبب في أن كان يكون للإثبات- إذا كان من طريق الكناية- مزية لا تكون إذا كان من طريق التصريح أنك إذا كنيت عن كثرة القرى بكثرة رماد القدر كنت قد أثبت كثرة القرى بإثبات شاهدها ودليلها، وما هو علم على وجودها . وذلك [ ص: 448 ] لا محالة يكون أبلغ من إثباتها بنفسها، وذلك لأنه يكون سبيلها حينئذ سبيل الدعوى تكون مع شاهد .

                          وذكرت أن السبب في أن كانت " الاستعارة " أبلغ من الحقيقة أنك إذا ادعيت للرجل أنه أسد بالحقيقة، كان ذلك أبلغ وأشد في تسويته بالأسد في الشجاعة . ذاك لأنه محال أن يكون من الأسود ثم لا تكون له شجاعة الأسود . وكذلك الحكم في " التمثيل " فإذا قلت : “ أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى " كان أبلغ في إثبات التردد له من أن تقول : أنت كمن يقدم رجلا ويؤخر أخرى " .

                          530- واعلم أنه قد يهجس في نفس الإنسان شيء يظن من أجله أنه ينبغي أن يكون الحكم في المزية التي تحدث بالاستعارة أنها تحدث في المثبت دون الإثبات، وذلك أن تقول : إنا إذا نظرنا إلى " الاستعارة " وجدناها إنما كانت أبلغ من أجل أنها تدل على قوة الشبه وأنه قد تناهى إلى أن صار المشبه لا يتميز عن المشبه به في المعنى الذي من أجله شبه به . وإذا كان كذلك كانت المزية الحادثة بها حادثة في الشبه، وإذا كانت حادثة في الشبه كانت في المثبت دون الإثبات .

                          والجواب عن ذلك أن يقال: إن الاستعارة - لعمري - تقتضي قوة الشبه، وكونه بحيث لا يتميز المشبه عن المشبه به، ولكن ليس ذاك سبب المزية، وذلك لأنه لو كان ذاك سبب المزية، لكان ينبغي إذا جئت به صريحا [ ص: 449 ] فقلت : “ رأيت رجلا مساويا للأسد في الشجاعة، وبحيث لولا صورته لظننت أنك رأيت أسدا " . وما شاكل ذلك من ضروب المبالغة، أن تجد لكلامك المزية التي تجدها لقولك : " رأيت أسدا " . وليس يخفى على عاقل أن ذلك لا يكون .

                          531- فإن قال قائل : إن المزية من أجل أن المساواة تعلم في " رأيت أسدا " من طريق المعنى وفي " رأيت رجلا مساويا للأسد " من طريق اللفظ قيل قد قلنا فيما تقدم، إنه محال أن يتغير حال المعنى في نفسه، بأن يكنى عنه بمعنى آخر، وأنه لا يتصور أن يتغير معنى طول القامة بأن يكنى عنه بطول النجاد ومعنى كثرة القرى بأن يكنى عنه بكثرة الرماد . وكما أن ذلك لا يتصور فكذلك لا يتصور أن يتغير معنى مساواة الرجل الأسد في الشجاعة، بأن يكنى عن ذلك ويدل عليه بأن تجعله " أسدا " . فأنت الآن إذا نظرت إلى قوله :


                          فأسبلت لؤلؤا من نرجس وسقت وردا وعضت على العناب بالبرد



                          فرأيته قد أفادك أن " الدمع " كان لا يخرم من شبه [ ص: 450 ] اللؤلؤ و " العين " من شبه النرجس شيئا - فلا تحسبن أن سبب الحسن الذي تراه فيه، والأريحية التي تجدها عنده، أنه أفادك ذلك فحسب . وذاك أنك تستطيع أن تجيء به صريحا فتقول : فأسبلت دمعا كأنه اللؤلؤ بعينه، من عين كأنها النرجس حقيقة " . ثم لا ترى من ذلك الحسن شيئا . ولكن اعلم أن سبب أن راقك وأدخل الأريحية عليك أنه أفادك في إثبات شدة الشبه مزية، وأوجدك فيه خاصة قد غرز في طبع الإنسان أن يرتاح لها، ويجد في نفسه هزة عندها . وهكذا حكم نظائره كقول أبي نواس :


                          تبكي فتذري الدر عن نرجس     وتلطم الورد بعناب



                          وقول المتنبي :


                          بدت قمرا ومالت خوط بان     وفاحت عنبرا، ورنت غزالا



                          إذا ظهر التشبيه في الاستعارة قبحت

                          532- واعلم أن من شأن " الاستعارة " أنك كلما زدت إرادتك التشبيه إخفاء، ازدادت الاستعارة حسنا ، حتى إنك تراها أغرب ما تكون إذا كان الكلام قد ألف تأليفا إن أردت أن تفصح فيه بالتشبيه خرجت إلى شيء تعافه النفس ويلفظه السمع ، ومثال ذلك قول ابن المعتز :

                          [ ص: 451 ]


                          أثمرت أغصان راحته     لجناة الحسن عنابا



                          ألا ترى أنك لو حملت نفسك على أن تظهر التشبيه وتفصح به، احتجت إلى أن تقول : " أثمرت أصابع يده التي هي كالأغصان لطالبي الحسن، شبيه العناب من أطرافها المخضوبة" . وهذا ما لا تخفى غثاثته . ومن أجل ذلك كان موقع " العناب " في هذا البيت أحسن منه في قوله :


                          وعضت على العناب بالبرد



                          وذاك لأن إظهار التشبيه فيه لا يقبح هذا القبح المفرط، لأنك لو قلت : “ وعضت على أطراف أصابع كالعناب بثغر كالبرد " كان شيئا يتكلم بمثله وإن كان مرذولا . وهذا موضع لا يتبين سره إلا من كان ملتهب الطبع حاد القريحة . وفي الاستعارة علم كثير ولطائف معان ودقائق فروق، وسنقول فيها إن شاء الله في موضع آخر .

                          القسم الثاني: وهو الذي تكون فصاحته في النظم

                          533- واعلم أنا حين أخذنا في الجواب عن قولهم : " إنه لو كان الكلام يكون فصيحا من أجل مزية تكون في معناه، لكان ينبغي أن يكون تفسيره فصيحا مثله " : قلنا : " إن الكلام الفصيح ينقسم قسمين : قسم تعزى المزية فيه إلى اللفظ ، وقسم تعزى فيه إلى النظم ، وقد ذكرنا في [ ص: 452 ] القسم الأول من الحجج ما لا يبقى معه لعاقل - إذا هو تأملها - شك في بطلان ما تعلقوا به من أنه يلزمنا في قولنا : " إن الكلام يكون فصيحا من أجل مزية تكون في معناه " أن يكون تفسير الكلام الفصيح فصيحا مثله . وأنه تهوس منهم، وتقحم في المحالات .

                          وأما القسم الذي تعزى فيه المزية إلى " النظم " فإنهم إن ظنوا أن سؤالهم الذي اغتروا به يتجه لهم فيه، كان أمرهم أعجب، وكان جهلهم في ذلك أغرب، وذلك أن " النظم " كما بينا، إنما هو توخي معاني النحو وأحكامه وفروقه ووجوهه، والعمل بقوانينه وأصوله وليست معاني النحو معاني ألفاظ فيتصور أن يكون لها تفسير .

                          534- وجملة الأمر، أن " النظم " إنما هو أن " الحمد " من قوله تعالى : " الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم " مبتدأ و " لله " خبره و " رب " صفة لاسم الله تعالى ومضاف إلى " العالمين " و " العالمين " مضاف إليه و " الرحمن الرحيم " صفتان كالرب، و " مالك " من قوله : « مالك يوم الدين » صفة أيضا، ومضاف إلى يوم و " يوم " مضاف إلى " الدين " . و " إياك " : ضمير اسم الله تعالى، وهو ضمير يقع موقع الاسم إذا كان الاسم منصوبا . معنى ذلك أنك لو ذكرت اسم الله مكانه لقلت : “ الله نعبد " ثم إن " نعبد " هو المقتضي معنى النصب فيه . وكذلك حكم " إياك نستعين " . ثم إن جملة " إياك نستعين " معطوف بالواو على جملة " إياك نعبد " . و " الصراط " [ ص: 453 ] مفعول و " المستقيم " صفة للصراط و " صراط الذين " بدل من " الصراط المستقيم " ، و " أنعمت عليهم " صلة الذين " وغير المغضوب عليهم " صفة " الذين " ، و " الضالين " معطوف على " المغضوب عليهم " .

                          فانظر الآن : هل يتصور في شيء من هذه المعاني أن يكون معنى اللفظ؟ وهل يكون كون " الحمد " مبتدأ معنى لفظ " الحمد "؟ أم يكون كون " رب " صفة وكونه مضافا إلى " العالمين " معنى لفظ " الرب " ؟

                          535- فإن قيل : إنه إن لم تكن هذه المعاني معاني أنفس الألفاظ، فإنها تعلم على كل حال من ترتيب الألفاظ، ومن الإعراب، فبالرفعة في " الدال " من " الحمد " يعلم أنه مبتدأ، وبالجر في " الباء " من " رب " يعلم أنه صفة، وبالياء في " العالمين " يعلم أنه مضاف إليه . وعلى هذا قياس الكل .

                          قيل : ترتيب اللفظ لا يكون لفظا، والإعراب وإن كان يكون لفظا، فإنه لا يتصور أن يكون هاهنا لفظان كلاهما علامة إعراب، ثم يكون أحدهما تفسيرا للآخر . وزيادة القول في هذا من خطل الرأي فإنه مما يعلمه العاقل ببديهة النظر ، ومن لم يتنبه له في أول ما يسمع، لم يكن أهلا لأن يكلم . ونعود إلى رأس الحديث فنقول :

                          536- قد بطل الآن من كل وجه وكل طريق، أن تكون " الفصاحة " وصفا للفظ من حيث هو لفظ ونطق لسان . وإذا كان هذا صورة الحال وجملة الأمر ثم لم تر القوم تفكروا في شيء مما شرحناه بحال، ولا أخطروه لهم ببال، بان وظهر أنهم لم يأتوا الأمر من بابه، ولم يطلبوه من معدنه، ولم يسلكوا إليه طريقه . وأنهم لم يزيدوا على أن أوهموا أنفسهم وهما كاذبا أنهم قد أبانوا [ ص: 454 ] الوجه الذي به كان القرآن معجزا والوصف الذي به بان من كلام المخلوقين، من غير أن يكونوا قد قالوا فيه قولا يشفي من شاك غليلا، ويكون على علم دليلا، وإلى معرفة ما قصدوا إليه سبيلا .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية