الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ولو أن فقيها قال لامرأته : أنت طالق ألبتة ، ومن رأيه أنه بائن ، فأمضى رأيه فيما بينه وبين امرأته ، وعزم على [ ص: 6 ] أنها قد حرمت عليه ، ثم تحول رأيه إلى أنها تطليقة واحدة ، يملك الرجعة ; فإنه يعمل برأيه الأول في حق هذه المرأة ، وتحرم عليه ، وإنما يعمل برأيه الثاني في المستقبل ، في حقها وفي حق غيرها ; لأن الأول رأي أمضاه بالاجتهاد ، وما أمضي بالاجتهاد ; لا ينقض باجتهاد مثله ، وكذلك لو كان رأيه أنها واحدة ، يملك الرجعة ، فعزم على أنها منكوحة ، ثم تحول رأيه إلى أنه بائن ، فإنه يعمل برأيه الأول ، ولا تحرم عليه ; لما قلنا .

                                                                                                                                ولو لم يكن عزم على الحرمة ، في الفصل الأول حتى تحول رأيه إلى الحل ، لا تحرم عليه ، وكذا في الفصل الثاني ، لو لم يكن عزم على الحل ، حتى تحول رأيه إلى الحرمة ، تحرم عليه ; لأن نفس الاجتهاد محل النقض ، ما لم يتصل به الإمضاء ، واتصال الإمضاء بمنزلة اتصال القضاء ، واتصال القضاء يمنع من النقض ، فكذا اتصال الإمضاء .

                                                                                                                                وكذلك الرجل إذا لم يكن فقيها ، فاستفتى : فقيها فأفتاه بحلال أو حرام ، ولو لم يكن عزم على ذلك ، حتى أفتاه فقيه آخر بخلافه ، فأخذ بقوله وأمضاه في منكوحته ، لم يجز له أن يترك ما أمضاه فيه ، ويرجع إلى ما أفتاه به الأول ; لأن العمل بما أمضى واجب ، لا يجوز نقضه مجتهدا كان أو مقلدا ; لأن المقلد متعبد بالتقليد ، كما أن المجتهد متعبد بالاجتهاد ، ثم لم يجز للمجتهد نقض ما أمضاه ، فكذا لا يجوز ذلك للمقلد .

                                                                                                                                ثم ما ذكرنا من نفاذ قضاء القاضي في محل الاجتهاد ، بما يؤدي إليه اجتهاده ; إذا لم يكن المقضي عليه ، والمقضي له من أهل الرأي والاجتهاد ، أو كانا من أهل الرأي والاجتهاد ، ولكن لم يخالف رأيهما رأي القاضي ، فأما إذا كانا من أهل الاجتهاد ، وخالف رأيهما رأي القاضي ، فجملة الكلام فيه : أن قضاء القاضي ينفذ على المقضي عليه في محل الاجتهاد ، سواء كان المقضي عليه ، عاميا مقلدا أو فقيها مجتهدا ، يخالف رأيه رأي القاضي بلا خلاف ، أما إذا كان مقلدا فظاهر ; لأن العامي يلزمه تقليد المفتي ، فتقليد القاضي أولى ، وكذا إذا كان مجتهدا ; لأن القضاء في محل الاجتهاد ، بما يؤدي إليه اجتهاد القاضي ، قضاء مجمع على صحته على ما مر ، ولا معنى للصحة إلا النفاذ على المقضي عليه ، وصورة المسألة إذا قال الرجل لامرأته : أنت طالق ألبتة ورأى الزوج أنه واحدة ، يملك الرجعة ورأى القاضي أنه بائن ، فرافعته المرأة إلى القاضي ، فقضى بالبينونة ينفذ قضاؤه بالاتفاق ; لما قلنا

                                                                                                                                وأما قضاؤه للمقضي له بما يخالف رأيه ، هل ينفذ ؟ قال أبو يوسف : لا ينفذ ، وقال محمد : ينفذ ، وصورة المسألة : إذا قال الرجل لامرأته : أنت طالق ألبتة ، ورأى الزوج أنه بائن ، ورأى القاضي أنه واحدة ، يملك الرجعة ، فرافعته إلى القاضي ; فقضى بتطليقة واحدة يملك الرجعة ; لا يحل له المقام معها عند أبي يوسف ، وعند محمد يحل له .

                                                                                                                                ( وجه ) قول محمد ما ذكرنا : أن هذا قضاء وقع الاتفاق على جوازه ، لوقوعه في فصل مجتهد فيه ، فينفذ على المقضي عليه والمقضي له ; لأن القضاء له تعلق بهما جميعا ، ألا ترى أنه لا يصح إلا بمطالبة المقضي له ، ولأبي يوسف : أن صحة القضاء إنفاذه في محل الاجتهاد ، يظهر أثره في حق المقضي عليه ، لا في حق المقضي له ; لأن المقضي عليه مجبور في القضاء عليه .

                                                                                                                                فأما المقضي له فمختار في القضاء له ، فلو اتبع رأي القاضي ، إنما يتبعه تقليدا ، وكونه مجتهدا يمنع من التقليد ، فيجب العمل برأي نفسه ، وعلى هذا كل تحليل أو تحريم ، أو إعتاق أو أخذ مال ; إذا قضى القاضي بما يخالف رأي المقضي عليه أو له ، فهو على ما ذكرنا من الاتفاق والاختلاف ، وكذلك المقلد إذا أفتاه إنسان في حادثة ، ثم رفعت إلى القاضي ، فقضى بخلاف رأي المفتي ، فإنه يأخذ بقضاء القاضي ، ويترك رأي المفتي ; لأن رأي المفتي يصير متروكا بقضاء القاضي ، فما ظنك بالمقلد ؟ ولم يذكر القدوري - رحمه الله - الخلاف في هذا الفصل ، وذكره شيخنا - رحمه الله - وسننظر فيه فيما يأتي إن شاء الله تعالى ، وعلى هذا يخرج القضاء بالبينة ; لأن البينة العادلة مظهرة للمدعي ، فكان القضاء بالنكول قضاء بالحق ، وعلى هذا يخرج القضاء بالإقرار ; لأن الإنسان لا يقر على نفسه كاذبا ، هذا هو ، الظاهر ، فكان القضاء به قضاء بالحق ، وكذا القضاء بالنكول عندنا ، فيما يقضى فيه بالنكول ; لأن النكول على أصل أصحابنا بذل ، أو إقرار ، وكل ذلك دليل صدق المدعي في دعواه ; لما علم ، فكان القضاء بالنكول قضاء بالحق .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية