الموضع الثاني
[ من المعتبر رضاه في لزوم هذا العقد ؟ ]
وأما من المعتبر قبوله في صحة هذا العقد : فإنه يوجد في الشرع على ضربين :
أحدهما : يعتبر فيه أنفسهما ( أعني : الزوج والزوجة ) إما مع الولي ، وإما دونه ، على مذهب من لا يشترط الولي في رضا المرأة المالكة أمر نفسها . رضا المتناكحين
والثاني يعتبر فيه فقط . رضا الأولياء
وفي كل واحد من هذين الضربين مسائل اتفقوا عليها ، ومسائل اختلفوا فيها ، ونحن نذكر منها قواعدها وأصولها فنقول :
أما الرجال البالغون الأحرار المالكون لأمر أنفسهم : فإنهم اتفقوا على اشتراط رضاهم وقبولهم في صحة النكاح .
واختلفوا هل يجبر العبد على النكاح سيده ، والوصي محجوره البالغ أم ليس يجبره ؟ فقال مالك : يجبر السيد عبده على النكاح ، وبه قال أبو حنيفة . وقال : لا يجبره . الشافعي
والسبب في اختلافهم : هل النكاح من حقوق السيد أم ليس من حقوقه ؟
وكذلك اختلفوا في جبر الوصي محجوره ، والخلاف في ذلك موجود في المذهب .
وسبب اختلافهم : هل النكاح مصلحة من مصالح المنظور له ; أم ليس بمصلحة ; وإنما طريقه الملاذ ؟ وعلى القول بأن النكاح واجب ينبغي أن لا يتوقف في ذلك .
وأما النساء اللاتي يعتبر رضاهن في النكاح : فاتفقوا على اعتبار رضا الثيب البالغ ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : " " إلا ما حكي عن والثيب تعرب عن نفسها . الحسن البصري
واختلفوا في البكر البالغ وفي الثيب الغير البالغ ما لم يكن ظهر منها الفساد .
[ ص: 396 ] فأما البكر البالغ ، فقال مالك ، والشافعي : للأب فقط أن يجبرها على النكاح . وقال وابن أبي ليلى أبو حنيفة ، ، والثوري ، والأوزاعي وجماعة : لا بد من اعتبار رضاها ، ووافقهم وأبو ثور مالك في البكر المعنسة على أحد القولين عنه .
وسبب اختلافهم : معارضة دليل الخطاب في هذا للعموم : وذلك أن ما روي عنه عليه الصلاة والسلام من قوله : " " . وقوله : " لا تنكح اليتيمة إلا بإذنها " خرجه تستأمر اليتيمة في نفسها أبو داود ، والمفهوم منه بدليل الخطاب أن ذات الأب بخلاف اليتيمة .
وقوله عليه الصلاة والسلام في حديث المشهور : " ابن عباس " يوجب بعمومه استئمار كل بكر ، والعموم أقوى من دليل الخطاب ، مع أنه خرج والبكر تستأمر مسلم في حديث زيادة ، وهو أنه قال عليه الصلاة والسلام : " ابن عباس " وهو نص في موضع الخلاف . والبكر يستأذنها أبوها
وأما الثيب الغير البالغ ، فإن مالكا وأبا حنيفة قالا : يجبرها الأب على النكاح . وقال : لا يجبرها . وقال المتأخرون : إن في المذهب فيها ثلاثة أقوال : قول : إن الأب يجبرها ما لم تبلغ بعد الطلاق ، وهو قول الشافعي أشهب . وقول إنه يجبرها وإن بلغت ، وهو قول . وقول : إنه لا يجبرها وإن لم تبلغ ، وهو قول سحنون أبي تمام . والذي حكيناه عن مالك : هو الذي حكاه أهل مسائل الخلاف كابن القصار وغيره عنه .
وسبب اختلافهم : معارضة دليل الخطاب للعموم :
وذلك أن قوله عليه الصلاة والسلام : " " ، يفهم منه أن ذات الأب لا تستأمر ; إلا ما أجمع عليه الجمهور من استئمار الثيب البالغ . تستأمر اليتيمة في نفسها ولا تنكح اليتيمة إلا بإذنها
وعموم قوله عليه الصلاة والسلام : " " يتناول البالغ وغير البالغ ، وكذلك قوله : " الثيب أحق بنفسها من وليها " يدل بعمومه على ما قاله لا تنكح الأيم حتى تستأمر ، ولا تنكح حتى تستأذن . الشافعي
ولاختلافهم في هاتين المسألتين سبب آخر ، وهو استنباط القياس من موضع الإجماع ، وذلك أنهم لما أجمعوا على أن الأب يجبر البكر غير البالغ ، وأنه لا يجبر الثيب البالغ إلا خلافا شاذا فيهما جميعا كما قلنا اختلفوا في موجب الإجبار ; هل هو البكارة أو الصغر ؟ فمن قال : الصغر قال : لا تجبر البكر البالغ . ومن قال : البكارة قال : تجبر البكر البالغ ، ولا تجبر الثيب الصغيرة . ومن قال : كل واحد منهما يوجب الإجبار إذا انفرد ، قال : تجبر البكر البالغ والثيب غير البالغ . والتعليل الأول تعليل أبي حنيفة ، والثاني تعليل ، والثالث تعليل الشافعي مالك . والأصول أكثر شهادة لتعليل أبي حنيفة .
واختلفوا في الثيوبة التي ترفع الإجبار وتوجب النطق بالرضا أو الرد ، فذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنها الثيوبة التي تكون بنكاح صحيح أو شبهة نكاح أو ملك ، وأنها لا تكون بزنى ولا بغصب . وقال : كل ثيوبة ترفع الإجبار . الشافعي
وسبب اختلافهم : هل يتعلق الحكم بقوله عليه الصلاة والسلام : " " بالثيوبة الشرعية أم بالثيوبة اللغوية ؟ . الثيب أحق بنفسها من وليها
واتفقوا على أن الأب يجبر ابنه الصغير على النكاح ، وكذلك ابنته الصغيرة البكر ولا يستأمرها لما ثبت : [ ص: 397 ] " " إلا ما روي من الخلاف عن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة رضي الله عنها بنت ست أو سبع ، وبنى بها بنت تسع بإنكاح أبي بكر أبيها رضي الله عنه ابن شبرمة .
واختلفوا من ذلك في مسألتين :
إحداهما : هل يزوج الصغيرة غير الأب ؟ والثانية : هل يزوج الصغير غير الأب ؟ [ المسألة الأولى ]
[ ] هل يزوج الصغيرة غير الأب ؟
فأما هل يزوج الصغيرة غير الأب أم لا ؟ فقال : يزوجها الجد أبو الأب والأب فقط . وقال الشافعي مالك : لا يزوجها إلا الأب فقط ، أو من جعل الأب له ذلك إذا عين الزوج إلا أن يخاف عليها الضيعة والفساد . وقال أبو حنيفة : يزوج الصغيرة كل من له عليها ولاية من أب وقريب وغير ذلك ، ولها الخيار إذا بلغت .
وسبب اختلافهم : معارضة العموم للقياس ، وذلك أن قوله عليه الصلاة والسلام : " " يقتضي العموم في كل بكر إلا ذات الأب التي خصصها الإجماع ، إلا الخلاف الذي ذكرناه . وكون سائر الأولياء معلوما منهم النظر والمصلحة لوليتهم يوجب أن يلحقوا بالأب في هذا المعنى : فمنهم من ألحق به جميع الأولياء ، ومنهم من ألحق به الجد فقط ، لأنه في معنى الأب إذ كان أبا أعلى ، وهو والبكر تستأمر وإذنها صماتها . ومن قصر ذلك على الأب رأى أن ما للأب في ذلك غير موجود لغيره ; إما من قبل أن الشرع خصه بذلك ; وإما من قبل أن ما يوجد فيه من الرأفة والرحمة لا يوجد في غيره ، وهو الذي ذهب إليه الشافعي مالك رضي الله عنه ، وما ذهب إليه أظهر - والله أعلم - إلا أن يكون هنالك ضرورة .
وقد احتج الحنفية بجواز إنكاح الصغار غير الآباء بقوله تعالى : ( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء ) قال : واليتيم لا ينطلق إلا على غير البالغة .
والفريق الثاني قالوا : إن اسم اليتيم قد ينطلق على بالغة بدليل قوله عليه الصلاة والسلام : " " والمستأمرة هي من أهل الإذن وهي البالغة ، فيكون لاختلافهم سبب آخر ، وهو اشتراك اسم اليتيم . تستأمر اليتيمة
وقد احتج أيضا من لم يجز نكاح غير الأب لها بقوله عليه الصلاة والسلام : " " قالوا : والصغيرة ليست من أهل الاستئمار باتفاق ، فوجب المنع ، ولأولئك أن يقولوا : إن هذا حكم اليتيمة التي هي من أهل الاستئمار ، وأما الصغيرة فمسكوت عنها . تستأمر اليتيمة في نفسها
[ المسألة الثانية ]
[ ] هل يزوج الصغير غير الأب ؟
وأما : هل يزوج الولي غير الأب الصغير ؟ فإن مالكا أجازه للوصي ، وأبا حنيفة أجازه للأولياء ، إلا أن أوجب الخيار له إذا بلغ ، ولم يوجب ذلك أبا حنيفة مالك . وقال : ليس لغير الأب إنكاحه . الشافعي
وسبب اختلافهم : قياس غير الأب في ذلك على الأب : فمن رأى أن الاجتهاد الموجود فيه الذي جاز [ ص: 398 ] للأب به أن يزوج الصغير من ولده لا يوجد في غير الأب لم يجز ذلك . ومن رأى أنه يوجد فيه أجاز ذلك . ومن فرق بين الصغير في ذلك والصغيرة فلأن الرجل يملك الطلاق إذا بلغ ولا تملكه المرأة ، ولذلك جعل أبو حنيفة لهما الخيار إذا بلغا .