[ ص: 627 ] بسم الله الرحمن الرحيم .
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما .
كتاب التفليس .
والنظر في هذا الكتاب فيما هو الفلس ، وفي أحكام المفلس ، فنقول :
إن يطلق على معنيين : الإفلاس في الشرع
أحدهما : أن يستغرق الدين مال المدين ، فلا يكون في ماله وفاء بديونه .
والثاني : أن لا يكون له مال معلوم أصلا . وفي كلا الفلسين قد اختلف العلماء في أحكامهما .
فأما الحالة الأولى ( وهي إذا ظهر عند الحاكم من فلسه ما ذكرنا ) : فاختلف العلماء في ذلك هل للحاكم أن يحجر عليه التصرف في ماله حتى يبيعه عليه ويقسمه على الغرماء على نسبة ديونهم ، أم ليس له ذلك ؟ بل يحبس حتى يدفع إليهم جميع ماله على أي نسبة اتفقت ، أو لمن اتفق منهم .
وهذا الخلاف بعينه يتصور فيمن كان له مال يفي بدينه ، فأبى أن ينصف غرماءه ، هل يبيع عليه الحاكم فيقسمه عليهم ، أم يحبسه حتى يعطيهم بيده ما عليه ؟ فالجمهور يقولون : يبيع الحاكم ماله عليه ، فينصف منه غرماءه ، أو غريمه إن كان مليا ، أو يحكم عليه بالإفلاس إن لم يف ماله بديونه ويحجر عليه التصرف فيه ، وبه قال مالك ، ، وبالقول الآخر قال والشافعي أبو حنيفة ، وجماعة من أهل العراق .
وحجة مالك ، : والشافعي : " أنه كثر دينه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يزد غرماءه على أن جعله لهم من ماله معاذ بن جبل " . حديث
وحديث : " أبي سعيد الخدري " . أن رجلا أصيب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمر ابتاعها ، فكثر دينه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تصدقوا عليه ، فتصدق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء بدينه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خذوا ما وجدتم ، وليس لكم إلا ذلك
وحديث عمر في القضاء على الرجل المفلس في حبسه ؛ وقوله فيه : " أما بعد ، فإن الأسيفع ( أسيفع جهينة ) رضي من دينه وأمانته بأن يقال : سبق الحاج ، وأنه ادان معرضا فأصبح قد رين عليه ، فمن كان له عليه دين فليأتنا " .
وأيضا من طريق المعنى : فإنه إذا كان المريض محجورا عليه لمكان ورثته ، فأحرى أن يكون المدين محجورا عليه لمكان الغرماء ، وهذا القول هو الأظهر; لأنه أعدل والله أعلم .
وأما حجج الفريق الثاني الذين قالوا بالحبس حتى يعطي ما عليه أو يموت محبوسا ، فيبيع القاضي حينئذ ماله ، ويقسمه على الغرماء : فمنها :
حديث حين استشهد أبوه بأحد ، وعليه دين ، فلما طالبه الغرماء جابر بن عبد الله جابر : " فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فكلمته ، فسألهم أن يقبلوا مني حائطي ، ويحللوا أبي ، فأبوا ، فلم يعطهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حائطي قال : ولكن سأغدو عليك ، قال : فغدا علينا حين أصبح فطاف بالنخل فدعا في ثمرها بالبركة ، قال : فجذذتها فقضيت منها حقوقهم ، وبقي من ثمرها بقية " . قال
[ ص: 628 ] وبما روي أيضا : أنه مات ، وعليه عشرة آلاف درهم ، فدعا أسيد بن الحضير غرماءه ، فقبلهم أرضه أربع سنين مما لهم عليه . عمر بن الخطاب
قالوا : فهذه الآثار كلها ليس فيها أنه بيع أصل في دين . قالوا : يدل على حبسه قوله صلى الله عليه وسلم : " " . قالوا : العقوبة هي حبسه . وربما شبهوا استحقاق أصول العقار عليه باستحقاق إجازته . لي الواجد يحل عرضه ، وعقوبته
وإذا قلنا : إن المفلس محجور عليه ، فالنظر في ماذا يحجر عليه ، وبأي ديون تكون المحاصة في ماله وفي أي شيء من ماله تكون المحاصة ؟ وكيف تكون ؟