( بحث في ، واعتبار المصالح في المعاملات ) . التزام النصوص في العبادات
تمهيد في مذهب مالك في ذلك :
كان الإمام مالك بن أنس من أشد علماء السلف تشديدا في اتباع السنة ، وتدقيقا في إنكار البدع والمحدثات في الدين ، حتى إنه أنكر على - وناهيك بعلمه وهديه - وضع ردائه في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم من الحر والصلاة عليه . وأنكر على من استشاره في عبد الرحمن بن مهدي من عند قبره ونهاه عن ذلك وأمره بالإحرام من الميقات ، فلما ألح الرجل قال له : " لا تفعل فإني أخشى عليك الفتنة " فقال الرجل : وأي فتنة في هذا ؟ إنما هي أميال أزيدها . قال : وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك قد سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ إني سمعت الله يقول : ( الإحرام من مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ) ( 24 : 63 ) ومن أجل كلامه رضي الله عنه : من أحدث في هذه الأمة شيئا لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خان الدين وفي رواية : الرسالة ؛ لأن الله يقول : ( اليوم أكملت لكم دينكم ) فما لم يكن يومئذ دينا لا يكون اليوم دينا اهـ .
نقل ذلك العلامة الشاطبي في عدة مواضع من كتاب الاعتصام ( ص : 167 ج1 و198 ج2 ) وقال في ص : 310 من الجزء الثالث منه في مثل هذا المقام : ولذلك التزم مالك في العبادات عدم الالتفات إلى المعاني وإن ظهرت لبادي الرأي ، وقوفا مع ما فهم من مقصود الشارع فيها من التسليم على ما هي عليه ، فلم يلتفت في إزالة الأخباث ورفع الأحداث إلى مطلق النظافة التي اعتبرها غيره حتى اشترط في رفع الأحداث النية ، ولم يقم غير الماء مقامه عنده وإن حصلت النظافة حتى يكون بالماء المطلق ، وامتنع من إقامة التكبير [ ص: 161 ] والتسليم والقراءة بالعربية مقامها في التحريم والتحليل والإجزاء ومنع من إخراج القيم في الزكاة ، واقتصر في الكفارات على مراعاة العدد وما أشبه ذلك .
" ودورانه في ذلك كله على ما حده الشارع دون ما يقتضيه معنى مناسب أن تصور لقلة ذلك في التعبدات وندوره ، بخلاف قسم العادات الذي هو جار على المعنى المناسب الظاهر للعقول . فإنه استرسل فيه استرسال المدل العريق في فهم المعاني المصلحية ، نعم مع مراعاة مقصود الشارع ألا يخرج عنه ، ولا يناقض أصلا من أصوله اهـ .
( أقول ) : إن العلامة الشاطبي قد حرر بحث البدع وأطال في التنفير عنها والحث على التزام السنة في كتابه ( الاعتصام ) بما لم يسبق إلى مثله - بحسب علمه وعلمنا - سابق ، ولم يلحقه فيه على ما وصل إليه علمنا لاحق ، ومن ذلك أنه فرق بين البدع وبين المصالح المرسلة تفرقة واضحة بينة ، وأثبت أن مالكا كان يقول بها على تشدده في نصر السنة ، ومبالغته في مقاومة البدع ، حتى قال فيه : إذا رأيت الرجل يبغض أحمد بن حنبل مالكا فاعلم أنه مبتدع ، وقال : إذا رأيت الحجازي يحب عبد الرحمن بن مهدي فاعلم أنه صاحب سنة . مالك بن أنس
المشهور أن وأن الجمهور على خلافه . وليس هذا القول صحيحا على إطلاقه ، فإن بعض علماء الأصول جعل القول بها من مسالك العلة للقياس ، فأدخلوها فيما يسمونه المناسبة أو المعنى المناسب . وعدها بعضهم من أنواع الاستدلال لا من أصول الأحكام ، فالأكثرون يقولون بها ، ولكن يختلفون في اسمها . قال القول بالمصالح المرسلة مذهب مالك ابن دقيق العيد : الذي لا شك فيه أن لمالك ترجيحا على غيره من الفقهاء في هذا النوع ، ويليه ، ولا يكاد يخلو غيرهما عن اعتباره في الجملة ، ولكن لهذين ترجيحا في الاستعمال لها على غيرهما ، وقال أحمد بن حنبل القرافي : هي عند التحقيق في جميع المذاهب; لأنهم يقومون ويقعدون بالمناسبة ، ولا يطلبون شاهدا بالاعتبار ، ولا نعني بالمصلحة المرسلة إلا ذلك . قال : ذهب إمام الحرمين ومعظم أصحاب الشافعي أبي حنيفة إلى تعلق الأحكام بالمصالح المرسلة بشرط الملاءمة للمصالح المعتبرة المشهود لها بالأصول .
وقد قسم علماء الأصول المناسب إلى ، ما علم اعتبار الشرع له ، وما علم إلغاؤه له ، وهو الذي لا يشهد له أصل معين بالاعتبار ، بل يؤخذ من مقاصد الشرع العامة ، فيعد من وسائلها وهذا القسم هو الذي يسمونه بالمصالح [ ص: 162 ] المرسلة . ذكر ذلك كله وما لا يعلم اعتباره ولا إلغاؤه له الشوكاني في إرشاد الفحول ، وقال : وقد اشتهر انفراد المالكية بالقول به . قال الزركشي : وليس كذلك ، فإن العلماء في جميع المذاهب يكتفون بمطلق المناسبة . ولا معنى للمصلحة المرسلة إلا ذلك اهـ .