( توضيح واستدراك وتصحيح ) .
في بحث . عدم شرب نبينا صلى الله عليه وسلم الخمر
حديث إهداء الخمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم المعزو إلى الحميدي في ( ص74 ) من حديث وإلى أبي هريرة مسلم من حديث والنسائي رواه ابن عباس أحمد وكذا البغوي عن طريق عبد الله بن لهيعة وسليمان بن عبد الرحمن نافع بن كيسان الثقفي عن أبيه : " أنه كان يتجر في الخمر وأنه أقبل من الشام فقال : يا رسول الله إني جئتك ( في الإصابة : جئت ) بشراب جيد فقال صلى الله عليه وسلم : يا كيسان إنها حرمت بعدك ، قال : أفأبيعها ؟ قال : إنها حرمت وحرم ثمنها " وفي توثيق عن ابن لهيعة وسليمان وتضعيفهما مقال معروف .
وروى أحمد وأبو يعلى من حديث أنه تميم الداري " . كان يهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم كل عام راوية خمر فلما كان عام حرمت جاء براوية فقال : " أشعرت أنها قد حرمت بعدك ؟ قال : أفلا أبيعها وأنتفع بثمنها ؟ فنهاه
ذكر الحافظ بن حجر الحديثين في الفتح وقال أولا : إن في حديث أحمد الأول [ ص: 80 ] أن المهدي كان من ثقيف أو دوس وأن ذلك كان عام الفتح ، ثم قال : ويستفاد من حديث كيسان تسمية المبهم في حديث ( أي الذي رواه ابن عباس مسلم أقول : وكذا في حديث والنسائي الذي عزاه صاحب المنتقى إلى أبي هريرة الحميدي ) ومن حديث تميم تأييد الوقت المذكور فإن إسلام تميم كان بعد الفتح . اه .
وأقول : قد اتضح من مجموع الروايات أن تميما هو الذي قالوا إنه كان يهدي للنبي صلى الله عليه وسلم راوية خمر في كل عام دون كيسان ، وتميم هذا قد أسلم سنة تسع من الهجرة كما نقله الحافظ في الإصابة وأشار إليه في الفتح ، فهو لم يدرك من حياة النبي صلى الله عليه وسلم إلا سنة واحدة كانت الخمر محرمة فيها باتفاق الروايات ، فإهداؤه الراوية إليه في كل عام كما قيل متعذر فهذا حديث ينقض نفسه بنفسه فلا يحتج به ، على فرض قوة سنده ، على أنه لو صح متنا وسندا لا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشرب من تلك الخمر ولم ينقل أحد ، وأنه ليوجد كثير من الناس يقتنون الخمر ولا يدينون الله بحرمتها وهم مع ذلك لا يشربونها ، وقد يشربها بعض أهل البيت منهم دون بعض ويقدمونها للضيوف ، فالاقتناء لا يدل على الشرب .
وأما حديث الذي أشرنا إليه في ص74 يعزوه إلى المسند فقد رواه شربه صلى الله عليه وسلم من نبيذ السقاية أيضا من طريق النسائي عن يحيى بن يمان أبي مسعود قال : " زمزم فصب عليه ثم شرب ، فقال رجل : أحرام هو يا رسول الله ؟ قال : لا " وقد صرح عطش النبي صلى الله عليه وسلم حول الكعبة فاستسقى فأتي بنبيذ من السقاية فشمه فقطب فقال : علي بذنوب من ماء أحمد راوياه بضعفه ، لأن والنسائي انفرد به دون أصحاب يحيى بن يمان سفيان وهو ضعيف ، قال : النسائي لا يحتج بحديثه لسوء حفظه وكثرة خطئه ، وقال ويحيى بن يمان : عامة ما يرويه غيره محفوظ ، وهو في نفسه لا يتعمد الكذب إلا أنه يخطئ ويشبه عليه ، وقال غيرهم : كان سريع الحفظ سريع النسيان ، كان يحفظ في المجلس الواحد خمسمائة حديث ، وقال الحافظ في الفتح : وقد ضعف حديث ابن عدي أبي مسعود المذكور النسائي وأحمد وغيرهم ينفرد وعبد الرحمن بن مهدي يرفعه وهو ضعيف . يحيى بن يمان
وفي معنى حديث السقاية حديث " ابن عمر الركن ودفع إليه القدح فرفعه إلى فيه فوجده شديدا فرده على صاحبه ، فقال له رجل من القوم : يا رسول الله أحرام هو ؟ فقال : علي بالرجل فأتي به فأخذ منه القدح ثم دعا بماء فصبه فيه ثم رفعه إلى فيه فقطب ثم دعا بماء أيضا فصبه فيه ثم قال : إذا اغتلمت عليكم هذه الأوعية فاكسروا متونها بالماء " رواه رأيت رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدح فيه نبيذ وهو عند من [ ص: 81 ] طريق النسائي عبد الملك بن نافع وقال فيه : ليس بالمشهور ولا يحتج بحديثه ، والمشهور عن خلاف حكايته ، ثم أورد الروايات عنه بأنه قال : " اجتنب كل شي ينش " وقال : " المسكر قليله حرام وكثيره حرام " وغير ذلك ، وقال ابن عمر الذهبي : عبد الملك بن نافع عن مجهول مرة وخبره منكر . ابن عمر
أقول : طالما دس المتلاعبون بالروايات أسماء المجهولين في الأسانيد الصحيحة ليروجوا بها ما يفترونه فأبطل رجال الجرح والتعديل دسيستهم ولو ثبت هذا الحديث لجاز القول بأن ذلك الشراب كان قد بدأ فيه التغير ولم يصل إلى حد الإسكار فكسره بالماء لئلا يصير مسكرا ولا يمكن موافقته للروايات الصحيحة إلا بهذا .
وقد روى النسائي والبيهقي نحوا من هذا عن عمر ، ولفظ : عن النسائي سمع يحيى بن سعيد يقول : " تلقت سعيد بن المسيب ثقيف عمر بشراب فدعا به فلما قربه إلى فيه كرهه فدعا به فكسره بالماء فقال : هكذا فافعلوا " ثم روى عن عتبة بن فرقد قال : كان النبيذ الذي قد شربه عمر قد تخلل ( أي صار خلا ) وذكر الحافظ الأثر في الفتح عن البيهقي وفيه أنه قطب وجهه " وقال : قال نافع : والله ما قطب عمر وجهه لأجل الإسكار حين ذاقه ، ولكنه تخلل ، وعن عتبة بن فرقد قال : كان النبيذ الذي شربه عمر قد تخلل وروى الأثرم عن وعن الأوزاعي العمري أن عمر إنما كسره بالماء لشدة حلاوته ، ثم جمع الحافظ بين القولين بأن ذلك كان في حالتين ، وأنه لما قطب كان لحموضته ، ولما لم يقطب كان لحلاوته .
وجملة القول : أن ما ورد من كسر النبيذ بالماء يدل مجموعه على أن يكسر إذا أخذ في الاشتداد والتغير خشية أن يصير مسكرا ، فأما إذا صار مسكرا فلا علاج له إلا إراقته كما ورد في الحديث المرفوع ، إذ لا يباح حينئذ قليله ولا كثيره ، ولو أزيل تأثيره بالماء ، والمراد بالاشتداد الذي ورد في الأخبار والآثار اشتداد الحموضة أو الحلاوة كما قاله البيهقي ، ومثله الاغتلام .
وروى عن النسائي عمر أنه قال : " إذا خشيتم من نبيذ شدته فاكسروه بالماء ، قال عبد الله : من قبل أن يشتد " انتهى ويمكن أن يحمل على هذا التفسير كل ما ورد في الاشتداد على طريقة العرب في التغير بالفعل عن قرب وقوعه وإرادته .
ومن الاستدراك على ما تقدم حديث " أبي بردة بن نيار " قال اشربوا في الظروف ولا تسكروا هذه حديث منكر غلط فيه النسائي ، ولا نعلم أن أحدا من أصحاب أبو الأحوص سلام بن سليم سماك تابعه عليه وسماك ليس بالقوي وكان يقبل التلقين وخطأه فيه أحمد أيضا . [ ص: 82 ] ومثله حديث عائشة " اشربوا ولا تسكروا " قال : وهذا غير ثابت أيضا ، وقال في النسائي قرصافة راويته عن عائشة لا يدرى من هي ، والمشهور عن عائشة خلاف ما روته عنها قرصافة ، ثم ذكر الروايات عنها في ذلك كقولها : " لا أحل مسكرا وإن كان خبزا وإن كان ماء " وقولها للنساء : " وإن أسكركن ماء حبكن فلا تشربنه " أقول : كذبوا على عائشة كما كذبوا على بخلاف ما صح عنهما . ابن عمر
وجملة القول أنه لم يصح في هذا المعنى شيء ، على أنه يمكن حمل معناه على ما يوافق سائر النصوص وهو الإذن بشرب النبيذ ( النقيع ) إذا علم أنه لم يختمر فيصير مسكرا لئلا يكسر به ، وأما حمله على الأحاديث الكثيرة في تحريم كل مسكر وفي تسميته خمرا على المسكر بالفعل فهو تحريف للغة وإفساد لها كما تقدم ، وإني لأعجب كيف يقول عاقل إن النبي صلى الله عليه وسلم يأمر الصحابة بأن يشربوا من المسكر وألا يسكروا ، هل يتيسر لواحد من ألف من الناس أن يشرب من المسكر ولا يسكر ؟