( وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ) أي ذلك ما لزمكم من أن التوراة كتاب أنزله الله على موسى عليه السلام ، أي أوحاه إليه ليكتب ويهتدى به إلى أن ينزل بترقيته تعالى لاستعداد جملة البشر - ما ينسخه ، ( وهذا ) " أي القرآن " ( كتاب عظيم القدر ) ، فتنكيره للتفخيم ( أنزلناه على خاتم رسلنا محمد - صلى الله عليه وسلم - كما أنزلنا التوراة على موسى من قبل ( مبارك ) باركه الله أو بارك فيه بما فضل به ما قبله من الكتب في النظم والمعنى ، وبما يكون من ثباته وبقائه إلى آخر عمر البشر في الدنيا ، هو من " البركة " وهي - بالتحريك - النماء والزيادة والسعة النافعة كبركة الماء . ومن معاني المادة الثبات والاستقرار كبرك البعير . ( مصدق الذي بين يديه ) وهو ما تقدمه من كتب الأنبياء ، أي مصدق لإنزال الله تعالى إياها في الجملة ، لا لكل ما يعزى إليها بالتفصيل وقد ذكر فيه بعض الكتب بأسمائها والصحف مضافة إلى أصحابها ، وذكر بعض قواعدها وأحكامها ، على أنه أنزل مهيمنا عليها ، ناعيا على بعض أهلها تحريفهم لها ، ونسيانهم لحظ عظيم منها ، وقد تقدم شرح ذلك في تفسير سورة المائدة وما قبلها . ونقل الرازي في تفسير " مبارك " عن أهل المعاني أن معناه كثير خيره ، دائم بركته ومنفعته ، يبشر بالثواب والمغفرة ويزجر عن القبيح والمعصية . ثم فسر ذلك هو بأن ما فيه من العلوم النظرية فهو أشرفها وأكملها وهو العلم بالله تعالى وصفاته ، وأفعاله وأحكامه وأسمائه ، وما فيه من العلوم العملية لا توجد في غير مثله سواء كانت أعمال الجوارح أو أعمال القلوب . ثم قال : وأنا قد نقلت أنواعا من العلوم النقلية والعقلية فلم يحصل لي بسبب شيء من العلوم من أنواع السعادة في الدين والدنيا مثل ما حصل بسبب خدمة هذا العلم انتهى . أي علم القرآن بتفسيره [ ص: 517 ] فليعتبر بهذا من يضعون جل أوقاتهم في طلب العلم الديني بعلوم الكلام وغيرها ، مما يعدون الرازي الإمام المطلق فيها ، لعلهم يرجعون إلى كتاب الله تعالى ويهتدون به ، ويطلبون السعادة من فيضه دون غيره ، ونسأل الله تعالى أن يوفقنا لإتمام تفسيره ، وأن يجعله حجة لنا لا علينا بكمال التخلق به .
( ولتنذر أم القرى ومن حولها ) قال : إن هذا عطف على ما دل عليه صفة الكتاب كأنه قال : أنزلناه للبركات وتصديق ما تقدمه وللإنذار ، واختار الزمخشري السعد التفتازاني كونه عطفا على صريح الوصف أي كتاب مبارك وكائن للإنذار لأن عطف الظرف على المفرد كثير في بابي الخبر والصفة ، وفيه بحث . ويجوز أن يكون عطفا على مقدر حذف لدلالة القرينة عليه كفعل التبشير الذي يقابل الإنذار ، وقد جمع بينهما في أول سورة الكهف وآخر سورة مريم ، وجرى البيضاوي على أن التعليل المحذوف دل عليه المذكور أي ولتنذر أم القرى أنزلناه . وقرأ أبو بكر عن عاصم " ولينذر " بالإسناد المجازي إلى الكتاب ، وأم القرى مكة والمراد أهلها بالاتفاق ، كنيت بهذه الكنية لأنها قبلة أهل القرى ، أي البلاد التي يجتمع فيها الناس كبيرة كانت أو صغيرة ، أو لأن فيها أول بيت وضع للناس ، أو لأنها حجهم ومجتمعهم ، أو لأنها أعظم القرى شأنا في الدين ، أو لأنهم يعظمونها كالأم ، أو لأن الأرض دحيت من تحتها كما روي عن بعض مفسري السلف . والمراد بالأخير أنها أول ما ظهر من الأرض اليابسة في الماء ، ولا يعرف مثل هذا إلا بوحي صريح ، والمراد بقوله تعالى : ( ومن حولها ) أهل الأرض كافة كما روي عن ، ويقويه تسميتها ابن عباس بأم القرى ونحن نعلم الآن علم اليقين أن الناس يصلون متوجهين إلى بيت الله فيها ، في جميع أقطار الأرض القريبة منها والبعيدة عنها فهذا مصداق كونهم حولها ، وزعم بعض اليهود المتقدمين وغيرهم أن المراد بمن حولها بلاد العرب فخصه بمن قرب منها عرفا ، واستدلوا به على أن بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة بقومه العرب ، والاستدلال باطل وإن سلم التخصيص المذكور ، فإن ، وقد ثبت عموم بعثته في آيات أخرى كقوله تعالى في هذه السورة : ( إرساله - صلى الله عليه وسلم - إلى قومه لا ينافي إرساله إلى غيرهم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ ) 18 أي وكل من بلغه ووصلت إليه هدايته وقد تقدم ، وقوله في أول سورة الفرقان : ( تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ) وقوله في سورة سبأ ( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ) 34 : 28 .
( والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به ) أي والذين يؤمنون بالآخرة أو الحياة الآخرة وما فيها من الجزاء على الإيمان والأعمال إيمانا إذعانيا صحيحا أو استعداديا قويا سواء كانوا من أهل الكتاب أو من غيرهم ، يؤمنون بهذا الكتاب المبارك إذا بلغهم أو إذا بلغهم دعوته ; لأنهم يجدون فيه أكمل الهداية إلى السعادة العظمى في تلك الدار ، فمثلهم كمثل قوم سفر ضلوا في مفازة من مجاهل الأرض ، حتى إذا كادوا يهلكون جاءهم رجل بكتاب [ ص: 518 ] في علم خرت الأرض وتقويم البلدان ، فيه بيان مكانهم وبيان أقرب السبل لمنجاتهم ، فإنهم لا يتلبثون بقبوله والعمل به ، وأما المنكرون للبعث والجزاء فلا يشعرون بشدة الحاجة إلى هدايته . وفي هذا تعريض أو تصريح بسبب إعراض جمهور أهل مكة الأعظم عن هذا الكتاب الذي فيه سعادتهم . وبالغ الرازي في قوله : يحتمل أن يكون المراد من هذا الكلام التنبيه على إخراج أهل مكة من قبول هذا الدين ، لأن الحامل على تحمل مشقة النظر والاستدلال وترك رياسة الدنيا وترك الحقد والحسد ليس إلا الرغبة في الثواب والرهبة من العقاب ، وكفار مكة لما لم يعتقدوا في البعث والقيامة امتنع منهم ترك الحسد وترك الرياسة فلا جرم يبعد قبولهم لهذا الدين واعترافهم بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام اهـ . ويعلم وجه المبالغة مما فسرنا به الجملة الشريفة ( وهم على صلاتهم يحافظون ) يؤدونها في أوقاتها ، مقيمين لأركانها وآدابها ; فإن الإيمان بالبعث وبالقرآن يقتضي ذلك حتما ، وخصت الصلاة بالذكر لأنه لم يكن فرض عند نزول السورة من أركان العبادات غيرها ، على أنه لما كانت الصلاة عماد الدين ورأس العبادات وممدة الإيمان بالتقوية وكمال الإذعان ، كانت المحافظة عليها داعية إلى القيام بسائر العبادات المفروضة وترك جميع المحرمات المنصوصة ، ومحاسبة النفس على الشبهات والأفعال المكروهة .