قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ، قد يتوهم الجاهل من ظاهر هذه الآية الكريمة عدم وجوب ، ولكن نفس الآية فيها الإشارة إلى أن ذلك فيما إذا بلغ جهده فلم يقبل منه المأمور ، وذلك في قوله : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا اهتديتم [ 5 \ 105 ] ; لأن من ترك الأمر بالمعروف لم يهتد ، وممن قال بهذا حذيفة ، ، كما نقله عنهما وسعيد بن المسيب الألوسي في " تفسيره " ، ، ونقله وابن جرير القرطبي عن ، سعيد بن المسيب ، ونقل نحوه وأبي عبيد القاسم بن سلام عن جماعة من الصحابة ، منهم ابن جرير ، ابن عمر . وابن مسعود
فمن العلماء من قال : إذا اهتديتم ، أي : أمرتم فلم يسمع منكم ، ومنهم من قال : يدخل الأمر بالمعروف في المراد بالاهتداء في الآية ، وهو ظاهر جدا ولا ينبغي [ ص: 460 ] العدول عنه لمنصف .
ومما يدل على أن غير مهتد ، أن الله تعالى أقسم أنه في خسر في قوله تعالى : تارك الأمر بالمعروف والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر [ 103 \ 1 ، 2 ، 3 ] ، فالحق وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وبعد أداء الواجب لا يضر الآمر ضلال من ضل ، وقد دلت الآيات كقوله تعالى : واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة [ 8 \ 25 ] ، والأحاديث على أن الناس إن لم يأمروا بالمعروف ، ولم ينهوا عن المنكر ، عمهم الله بعذاب من عنده .
فمن ذلك ما خرجه الشيخان في " صحيحيهما " - رضي الله عنها : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها فزعا مرعوبا يقول : " لا إله إلا الله ، ويل للعرب من شر قد اقترب ، فتح اليوم من ردم أم الحكم زينب بنت جحش يأجوج ومأجوج مثل هذه ، وحلق بإصبعيه الإبهام والتي تليها ، فقلت : يا رسول الله ! أنهلك وفينا الصالحون ؟ ، قال : نعم إذا كثر الخبث " . عن أم المؤمنين
وعن - رضي الله عنهما : عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " النعمان بن بشير " ، أخرجه مثل القائم في حدود الله ، والواقع فيها ، كمثل قوم استهموا على سفينة ، فصار بعضهم أعلاها ، وبعضهم أسفلها ، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم ، فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ، ولم نؤذ من فوقنا ، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا ، وهلكوا جميعا ، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ، ونجوا جميعا البخاري . والترمذي
وعن - رضي الله عنه - قال : أبي بكر الصديق ياأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ، وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن رأى الناس الظالم فلم يأخذوا على يده ، أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه " ، رواه يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية : أبو داود ، ، والترمذي بأسانيد صحيحة ، وعن والنسائي - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " ابن مسعود بني إسرائيل ، أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول : يا هذا اتق الله ، ودع ما تصنع ، فإنه لا يحل لك ، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله ، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده ، فلما فعلوا [ ص: 461 ] ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض " ، ثم قال : أول ما دخل النقص على لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون [ 5 \ 79 ، 80 ، 81 ] ، ثم قال : " كلا والله لتأمرن بالمعروف ، ولتنهون عن المنكر ، ولتأخذن على يد الظالم ، ولتأطرنه على الحق أطرا ، ولتقصرنه على الحق قصرا ، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض ، ثم ليلعننكم كما لعنهم " . إن
رواه أبو داود ، وقال : حسن ، وهذا لفظ والترمذي أبي داود ، ولفظ الترمذي : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " بنو إسرائيل في المعاصي ، نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا ، فجالسوهم وواكلوهم ، وشاربوهم ; فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ; ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون " ، فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان متكئا ، فقال : " لا والذي نفسي بيده ، حتى يأطروهم على الحق أطرا " . لما وقعت
ومعنى تأطروهم أي : تعطفوهم ، ومعنى تقصرونه : تحبسونه ، والأحاديث في الباب كثيرة جدا ، وفيها الدلالة الواضحة على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر داخل في قوله : إذا اهتديتم ، ويؤيده كثرة الآيات الدالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كقوله تعالى : ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون [ 3 \ 104 ] ، وقوله : كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر [ 3 \ 110 ] . وقوله : لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ، وقوله : وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر [ 18 \ 29 ] ، وقوله : فاصدع بما تؤمر [ 15 \ 94 ] ، وقوله : أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون [ 7 \ 165 ] ، وقوله : واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة [ 8 \ 25 ] .
والتحقيق في معناها : أن المراد بتلك الفتنة التي تعم الظالم وغيره هي أن ، صالحهم وطالحهم ، وبه فسرها جماعة من أهل العلم ، والأحاديث الصحيحة شاهدة لذلك ، كما قدمنا طرفا منها . الناس [ ص: 462 ] إذا رأوا المنكر فلم يغيروه عمهم الله بالعذاب