تنبيه
في هذه الآية الكريمة ، أعني قوله تعالى : تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض الآية ، إشكال قوي معروف . ووجهه : أنه ثبت في حديث المتفق عليه أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : " أبي هريرة موسى ; فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق ، فإذا موسى باطش بجانب العرش ، فلا أدري أفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله " ، وثبت أيضا في حديث لا تخيروني على أبي سعيد المتفق عليه : " " الحديث ، وفي رواية : " لا تخيروا بين الأنبياء ; فإن الناس يصعقون يوم القيامة " ، وفي رواية : " لا تفضلوا بين أنبياء الله " . لا تخيروني من بين الأنبياء
وقال القرطبي في تفسير هذه الآية ما نصه : وهذه الآية مشكلة ، والأحاديث ثابتة بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " " ، رواها الأئمة الثقات ، أي : لا تقولوا فلان خير من فلان ، ولا فلان أفضل من فلان ، اهـ . لا تخيروا بين الأنبياء ولا تفضلوا بين أنبياء الله
قال ابن كثير في الجواب عن هذا الإشكال ما نصه : والجواب من وجوه : أحدها : أن هذا كان قبل أن يعلم بالتفضيل ، وفي هذا نظر .
الثاني : أن هذا قاله من باب الهضم والتواضع .
الثالث : أن هذا نهي عن التفضيل في مثل هذا الحال التي تحاكموا فيها عند التخاصم والتشاجر .
الرابع : لا تفضلوا بمجرد الآراء والعصبية .
الخامس : ليس مقام التفضيل إليكم ، وإنما هو إلى الله عز وجل ، وعليكم الانقياد والتسليم له والإيمان به ، اهـ منه بلفظه .
وذكر القرطبي في " تفسيره " أجوبة كثيرة عن هذا الإشكال ، واختار أن منع التفضيل في خصوص النبوة ، وجوازه في غيرها من زيادة الأحوال ، والخصوص ، والكرامات فقد قال ما نصه : قلت : وأحسن من هذا قول من قال : إن المنع من التفضيل إنما هو من جهة النبوة هو التي هي خصلة واحدة لا تفاضل فيها ، وإنما التفضيل [ ص: 157 ] في زيادة الأحوال والخصوص ، والكرامات ، والألطاف ، والمعجزات المتباينات .
وأما النبوة في نفسها فلا تتفاضل ، وإنما تتفاضل بأمور أخر زائدة عليها ، ولذلك منهم رسل وأولو عزم ، ومنهم من اتخذ خليلا ، ومنهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات . قال الله تعالى : ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا [ 17 ] ، قلت : وهذا قول حسن ، فإنه جمع بين الآي والأحاديث من غير نسخ ، والقول بتفضيل بعضهم على بعض ، إنما هو بما منح من الفضائل وأعطى من الوسائل ، وقد أشار إلى هذا فقال : إن الله فضل ابن عباس محمدا - صلى الله عليه وسلم - على الأنبياء وعلى أهل السماء ، فقالوا : بم يا فضله على أهل السماء ؟ فقال : إن الله تعالى قال : ابن عباس ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين [ 21 \ 29 ] ، وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم : إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر [ 48 ] ، قالوا : فما فضله على الأنبياء ؟ قال : قال الله تعالى : وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم [ 14 \ 4 ] ، وقال الله - عز وجل - لمحمد صلى الله عليه وسلم : وما أرسلناك إلا كافة للناس [ 34 \ 28 ] ، فأرسله إلى الجن والإنس ، ذكره في " مسنده " ، وقال أبو محمد الدارمي : خير بني أبو هريرة آدم نوح وإبراهيم وموسى ومحمد - صلى الله عليه وسلم - وهم ، وهذا نص من أولو العزم من الرسل ابن عباس في التعيين ، ومعلوم أن من أرسل أفضل ممن لم يرسل ; فإن من أرسل فضل على غيره بالرسالة ، واستووا في النبوة إلى ما يلقاه الرسل من تكذيب أممهم وقتلهم إياهم ، وهذا مما لا خفاء به . اهـ محل الغرض منه بلفظه . وأبي هريرة
واختار ابن عطية كما نقله عنه القرطبي أن وجه الجمع جواز كقوله صلى الله عليه وسلم : " التفضيل إجمالا " ، ولم يعين ومنع التفضيل على طريق الخصوص كقوله : " أنا سيد ولد آدم ولا فخر موسى " ، وقوله : " لا تفضلوني على يونس بن متى " ، ونحو ذلك ، والعلم عند الله تعالى . لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من
قوله تعالى : الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون يفهم من هذه الآية أن من أتبع إنفاقه المن والأذى لم يحصل له هذا الثواب المذكور هنا في قوله : منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون [ 2 \ 262 ] . وقد صرح تعالى بهذا المفهوم في [ ص: 158 ] قوله : ياأيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى الآية [ 2 \ 264 ] .