قفوت الأثر : اتبعته ، والأصل أن يجيء الإنسان تابعا لقفا الذي اتبعه ، ثم توسع فيه حتى صار لمطلق الاتباع ، وإن بعد زمان المتبوع ، من زمان التابع . وقال أمية :
[ ص: 297 ]
قالت لأخت له قصيه عن جنب وكيف تقفو ولا سهل ولا جدد الرسل
: جمع رسول ، ولا ينقاس فعل في فعول بمعنى مفعول . وتسكين عينه لغة أهل الحجاز ، والتحريك لغة بني تميم . عيسى : اسم أعجمي علم لا يصرف للعجمة والعلمية ، ووزنه عند : فعلى ، والياء فيه ملحقة ببنات الأربعة ، بمنزلة ياء معزى ، يعني بالياء الألف ، سماها ياء لكتابتهم إياها ياء . قال سيبويه أبو علي : وليست للتأنيث ، كالتي في ذكرى ، بدلالة صرفهم له في النكرة . وذهب الحافظ ، صاحب التصانيف في القراءات ، أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني وعثمان بن سعيد الصيرفي وغيره ، إلى أن وزنه فعلل ، ورد ذلك الأستاذ أبو الحسن بن الباذش بأن الياء والواو لا يكونان أصلا في بنات الأربع . قال بعض أصحابنا : وهذه الأسماء أعجمية ، وكل أعجمي استعملته العرب ، فالنحويون يتكلمون على أحكامه في التصريف على الحد الذي يتكلمون في العربي ، فعيسى من هذا الباب . انتهى كلامه . ومن زعم أنه مشتق من العيس : وهو بياض يخالطه شقرة ، فغير مصيب ؛ لأن الاشتقاق العربي لا يدخل الأسماء الأعجمية . مريم ، باللسان السرياني معناه : الخادم ، وسميت به أم عيسى ، فصار علما ، فامتنع الصرف للتأنيث والعلمية . ومريم ، باللسان العربي من النساء ، كالزير من الرجال ، وبه فسر قول رؤبة :قلت لزير لم تصله مريمه
والزير : الذي يكثر خلطة النساء وزيارتهن ، والياء فيه مبدلة من واو ، كالريح ، إذ هما من الزور والروح ، فصار هذا اللفظ مشتركا بالنسبة إلى اللسانين . ووزن مريم عند النحويين مفعل ؛ لأن فعيلا ، بفتح الفاء ، لم يثبت في الأبنية ، كما ثبت نحو عثير وعلبب ، قاله وغيره : وقد أثبت بعض الناس فعيلا ، وجعل منه الزمخشري ضهيدا ، اسم موضع ، ومدين ، إذا جعلنا ميمه أصلية ، وضهياء مقصورة مصروفة ، وهي المرأة التي لا تحيض ، وقيل : التي لا ثدي لها . قال : ضهياة وضهياءة ، بالقصر والمد . قال أبو عمرو الشيباني : اشتقاقها من ضأهأت : أي شابهت ، لأنها أشبهت الرجل . وقال الزجاج : أما ضهيد وعثير فمصنوعان ، فلا يجعلان دليلا على إثبات فعيل . انتهى . وصحة حرف العلة في ابن جني مريم على خلاف القياس نحو مزيد . البين : الواضح ، بان : وضح وظهر . أيد : فعل تأييدا ، أو أيد : أفعل إئيادا ، وكلاهما من الأيد ، وهو القوة . وقد أبدلوا في أفعل من يائه جيما ، قالوا : أجد ، أي قوي ، كما أبدلوا ياء يد ، قالوا : لا أفعل ذلك جدى الدهر ، يريدون يد الدهر ، وهو إبدال لا يطرد . والأصل في آيد أأيد ، وصححت العين كما صححت في أغيلت ، وهو تصحيح شاذ إلا في فعل التعجب ، فتقول : ما أبين ! وما أطول ! ورآه أبو زيد مقيسا ، ولو أعل على حد أقتت وأحدت ، فألقيت حركة العين على الفاء ، وحذفت العين ، لوجب أن تنقلب الفاء واوا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، كما انقلبت في أوادم جمع آدم على أفاعل ، ثم تنقلب الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها . فلما أدى القياس إلى إعلال الفاء والعين ، رفض وصححت العين . الروح من الحيوان : اسم للجزء الذي تحصل به الحياة ، قاله الراغب ، واختلف الناس فيه وفي النفس ، أهما من المشترك أم من المتباين ؟ وفي ماهية النفس والروح ، وقد صنف في ذلك . القدس : الطهارة ، وقيل : البركة ، وقد تقدم الكلام على ذلك عند الكلام على قوله تعالى : ( ونقدس لك ) ، الرسول ، فعول بمعنى المفعول ، أي المرسل ، وهو قليل ، ومنه : الحلوب ، والركوب ، بمعنى المحلوب والمركوب . تهوى : تحب وتختار ، ماضيه على فعل ، ومصدره الهوى . غلف : جمع أغلف ، كأحمر وحمر ، وهو الذي لا يفقه ، أو جمع غلاف ، وهو الغشاء ، فيكون أصله التثقيل ، فخفف . اللعن : الطرد والإبعاد ، يقال : شأو لعين ، أي بعيد ، وقال الشماخ :
ذعرت به القطا ونفيت عنه مقام الذئب كالرجل اللعين
المعرفة : العلم المتعلق بالمفردات ، ويسبقه الجهل ، بخلاف أصل العلم فإنه يتعلق بالنسب ، وقد لا يسبقه [ ص: 298 ] الجهل ، ولذلك لم يوصف الله تعالى بالمعرفة ، ووصف بالعلم . بئس : فعل جعل للذم ، وأصله فعل ، وله ولنعم باب معقود في النحو . البغي : الظلم ، وأصله الفساد ، من قولهم : بغى الجرح : فسد ، قاله ، وقيل : أصله شدة الطلب ، ومنه ما نبغي ، وقول الراجز : الأصمعي
أنشد والباغي يحب الوجدان قلائصا مختلفات الألوان
ومنه سميت الزانية بغيا ، لشدة طلبها للزنا . الإهانة : الإذلال ، وهان هوانا : لم يحفل به ، وهو معنى الذل ، وهو كون الإنسان لا يؤبه به ، ولا يلتفت إليه . وراء : من الظروف المتوسطة التصرف ، وتكون بمعنى قدام ، وبمعنى : خلف ، وهو الأشهر فيه . الخالص : الذي لا يشوبه شيء ، يقال : خلص يخلص خلوصا . تمنى : تفعل من المنية ، وهو الشيء المشتهى ، وقد يكون المتمنى باللسان بمعنى : التلاوة ، ومنه : تمنى على زيد منه حاجة ، وجد : مشترك بين الإصابة والعلم والغنى والحرج ويختلف بالمصادر : كالوجدان والوجد والموجدة . الحرص : شدة الطلب . الود : المحبة للشيء والإيثار له ، وفعله : ود وهو على فعل يفعل ، وحكى : وددت ، فعلى هذا يجوز كسر الواو ، إذ يكون فعل يفعل ، وفك الإدغام في قوله : الكسائي
ما في قلوبهم لنا من مودة
ضرورة . عمر : التضعيف فيه للنقل ، إذ هو من عمر الرجل : أي طال عمره ، وعمره الله : أطال عمره ، والعمر : مدة البقاء . الألف : عشر من المئين ، وقد يتجاوز فيه فيدل على الشيء الكثير ، وهو من الألفة ، إذ هو ما لف أنواع الأعداد ، إذ العشرات ما لف الآحاد ، والمئون ما لف العشرات ، والألف ما لف المئين . الزحزحة : الإزالة والتنحية عن المقر . بصير : فعيل من بصر به إذا رآه ، ( فبصرت به عن جنب ) ، ثم يتجوز به فيطلق على بصر القلب ، وهو العلم . بصير بكذا : أي عالم به .
( ولقد آتينا موسى الكتاب ) : تقدم الكلام في هذه اللام ، ويحتمل أن تكون للتأكيد ، وأن تكون جواب قسم . ومناسبة هذا لما قبله أن إيتاء موسى الكتاب هو نعمة لهم ، إذ فيه أحكامهم وشرائعهم . ثم قابلوا تلك النعمة بالكفران ، وذلك جرى على ما سبق من عادتهم ، إذ قد أمروا بأشياء ونهوا عن أشياء ، فخالفوا أمر الله ونهيه ، فناسب ذكر هذه الآية ما قبلها . والإيتاء : الإعطاء ، فيحتمل أن يراد به : الإنزال ؛ لأنه أنزله عليه جملة واحدة ، ويحتمل أن يراد آتيناه : أفهمناه ما انطوى عليه من الحدود والأحكام والأنباء والقصص وغير ذلك مما فيه ، فيكون على حذف مضاف : آتينا موسى علم الكتاب ، أو فهم الكتاب . وموسى : هو نبي الله موسى بن عمران ، صلى الله على نبينا وعليه وسلم . والكتاب هنا : التوراة ، في قول الجمهور ، والألف واللام فيه للعهد ، إذ قرن بموسى وانتصابه على أنه مفعول ثان لآتينا . وقد تقدم أنه مفعول أول عند السهيلي ، وموسى هو الثاني عنده .
( وقفينا ) : هذه الياء أصلها الواو ، إلا أنها متى وقعت رابعة أبدلت ياء ، كما تقول : غزيت من الغزو ، والتضعيف الذي في قفينا ليس للتعدية ، إذ لو كان للتعدية لكان يتعدى إلى اثنين ، لأن قفوت يتعدى إلى واحد . تقول : قفوت زيدا ، أي تبعته ، فلو جاء على التعدية لكان : وقفيناه من بعده الرسل ، وكونه لم يجئ كذلك في القرآن ، يبعد أن تكون الباء زائدة في المفعول الأول ، ويكون المفعول الثاني جاء محذوفا . ألا ترى إلى قوله : ( ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم ) ، ولكنه ضمن معنى جئنا ، كأنه قال : وجئنا من بعده بالرسل ، يقفو بعضهم بعضا ، ومن في : ( من بعده ) : لابتداء الغاية ، وهو ظاهر ؛ لأنه يحكى أن موسى لم يمت حتى نبئ يوشع .
( بالرسل ) : أرسل الله على أثر موسى رسلا وهم : يوشع ، وشمويل ، وشمعون ، وداود ، وسليمان ، وشعيا ، وأرميا ، وعزير ، وحزقيل ، وإلياس ، واليسع ، ويونس ، وزكريا ، ويحيى ، وغيرهم . والباء في بالرسل متعلق بقفينا ، والألف واللام يحتمل أن تكون للجنس الخاص ، ويحتمل أن تكون للعهد ، [ ص: 299 ] لما استفيد من القرآن وغيره أن هؤلاء بعثوا من بعده ، ويحتمل أن تكون التقفية معنوية ، وهي كونهم يتبعونه في العمل بالتوراة وأحكامها ، ويأمرون باتباعها والبقاء على التزامها . وقرأ الجمهور : بالرسل بضم السين . وقرأ الحسن : بتسكينها ، وقد تقدم أنهما لغتان ، ووافقهما ويحيى بن يعمر أبو عمرو إن أضيف إلى ضمير جمع نحو رسلهم ورسلكم ورسلنا ، استثقل توالي أربع متحركات ، فسكن تخفيفا .
( وآتينا عيسى ابن مريم ) : أضاف عيسى إلى أمه ردا على اليهود فيما أضافوه إليه .
( البينات ) : وهي الحجج الواضحة الدالة على نبوته ، فيشمل كل معجزة أوتيها عيسى - عليه السلام - وهذا هو الظاهر . وقيل : الإنجيل . وقيل : الحجج التي أقامها الله على اليهود . وقيل : إبراء الأكمه والأبرص ، والإخبار بالمغيبات ، وإحياء الموتى ، وهم أربعة : سام بن نوح ، والعازر ، وابن العجوز ، وبنت العشار ، ومن الطير : الخفاش ، فقيل : لم يكن من قبل عيسى ، بل هو صورة ، والله نفخ فيه الروح . وقيل : كان قبله ، فوضع عيسى على مثاله . قالوا : وإنما اختص هذا النوع من الطير لأنه ليس شيء من الطير أشد خلقا منه ؛ لأنه لحم كله . وأجمل الله ذكر الرسل ، وفصل ذكر عيسى ؛ لأن من قبله كانوا متبعين شريعة موسى ، وأما عيسى فنسخ شرعه كثيرا من شرع موسى .
( وأيدناه ) : قرأ الجمهور على وزن فعلناه . وقرأ مجاهد ، ، والأعرج وحميد ، وابن محيصن ، وحسين ، عن أبي عمرو : أأيدناه ، على وزن : أفعلناه . وتقدم الكلام على ذلك في المفردات ، وفرق بعضهم بينهما فقال : أما المد فمعناه القوة ، وأما القصر فالتأييد والنصر ، والأصح أنهما بمعنى قويناه ، وكلاهما من الأيد ، وهو القوة .