( الحجر ) : قال الحسن : لم يكن حجرا معينا بل أي حجر ضرب انفجر منه الماء ، وهذا أبلغ في الإعجاز ، حيث ينفجر الماء من أي حجر ضرب . وروي أنهم قالوا : لو فقد موسى عصاه متنا عطشا ، فأوحى الله إليه : لا تقرع الحجارة ، وكلمها تطعك لعلهم يعتبرون ، فكانت تطيعه فلم يعتبروا . وقال وهب : كان يقرع لهم أقرب حجر فينفجر ، فعلى هذا تكون الألف واللام في ( الحجر ) للجنس . وقيل : إن الألف واللام للعهد ، وهو حجر معين حمله معه من الطور مربع له أربعة أوجه ، ينبع من كل وجه ثلاثة أعين ، لكل سبط عين تسيل في جدول إلى السبط الذي أمرت أن تسقيهم ، وكانوا ستمائة ألف خارجا عن دوابهم ، وسعة العسكر اثنا عشر ميلا . وقيل : حجر أهبطه معه آدم من الجنة ، فتوارثوه حتى وقع لشعيب ، فدفعه إلى موسى مع العصا . وقيل : هو الحجر الذي وضع موسى عليه ثوبه حين اغتسل ، إذ رموه بالأدرة ، ففر ، قال له جبريل عليه السلام : بأمر الله ارفع هذا الحجر ، فإن لي فيه قدرة ولك فيه معجزة ، فحمله في مخلاة ، قاله . وقيل : حجر أخذه من قعر البحر خفيف مربع مثل رأس الرجل ، له أربعة أوجه ، ينبع من كل وجه ثلاث أعين ، لكل سبط عين تسيل في جدول إليه ، وكان يضعه في مخلاته ، فإذا احتاجوا إلى الماء وضعه وضربه بعصاه . وقيل : كان رخاما فيه اثنتا عشرة حفرة ، تنبع من كل حفرة عين ماء عذب يأخذونه ، فإذا فرغوا ضربه ابن عباس موسى بعصاه فذهب الماء . وقيل : حجر أخذه من جبل زبيد ، طوله أربعة أذرع ، قاله الضحاك . وقيل : حجر مثل رأس الشاة ، يلقونه في جانب الجوالق إذا ارتحلوا ، فيه من كل ناحية ثلاث عيون بعد أن يستمسك ماؤها بعد رحلتهم ، فإذا نزلوا فقرعه موسى بعصاه فعادت العيون بحسبها ، قاله ابن زيد . وقيل حجر يحمله في مخلاته ، أخذه إذ قالوا : كيف بنا إذا أفضنا إلى أرض ليست فيها حجارة ؟ فحيثما نزلوا ألقاه فينفجر ماء . وقيل : حجر من الكذان فيه اثنتا عشرة عينا ، يسقي كل يوم ستمائة ألف ، قاله أبو روق ، وقيل : حجر ذراع في ذراع ، قاله . وقيل : حجر مثل رأس الثور . وقيل : حجر كان ينفجر لهم منه الماء ، لم يكونوا يحملونه ، بل كانوا أي مكان نزلوا وجدوه فيه ، وذلك أعظم في الإعجاز وأبلغ في الخارق ، وقال السدي مقاتل والكلبي : كانوا إذا قضوا حاجتهم من الماء اندرست تلك العيون ، فإذا احتاجوا إلى الماء انفجرت .
فهذه أقوال المفسرين في الحجر ، وظاهرها أو ظاهر أكثرها التعارض . قال بعض من جمع في تفسير القرآن : الأليق أنه الحجر الذي فر بثوب موسى ، عليه السلام ، فإن الله أودع فيه حركة التنقل والسعي ، أو وكل به ملكا يحمله ولا يستنكر ذلك . فقد صح أن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، قال : " " . وقد رام هذا الرجل الجمع بين هذه الأقوال بأن يكون الحجر غير معين ، بل أي حجر وجده ضربه ، فوجد مرة مربعا ، ومرة كذانا ، ومرة رخاما ، وكذا فيها . قال : فروى الراوي صفة ذلك الحجر الذي ضربه في تلك المنزلة قال : فيزول التغاير في الكيفيات ، ويحصل التوفيق بين الروايات . وهذا الكلام كما ترى . وظاهر القرآن : أن الحجر ليس بمعين ، إذ لم يتقدم ذكر حجر فيكون هذا معهودا ، وأن الاستسقاء لم يتكرر ، لا هو ولا الضرب ولا الانفجار ، وأن هذه الكيفيات التي ذكروها لم يتعرض لها لفظ القرآن ، فيحتمل أن يكون ذلك متكررا ، ويحتمل أن يكون ذلك مرة واحدة ، والواحدة هي المتحققة . إني لأعرف حجرا كان يسلم علي
( فانفجرت ) : الفاء للعطف على جملة محذوفة ، التقدير : فضرب فانفجرت ، كقوله تعالى : ( أن اضرب بعصاك البحر فانفلق ) أي فضرب فانفلق . ويدل على هذا المحذوف وجود الانفجار مرتبا على ضربه ، إذ لو كان [ ص: 228 ] يتفجر دون ضرب ، لما كان للأمر فائدة ، ولكان تركه عصيانا ، وهو لا يجوز على الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - وما ذهب إليه بعض الناس من أن الفاء في مثل : فانفلق ، هي الفاء التي في ضرب ، وأن المحذوف هو المعطوف عليه ، وحرف العطف من المعطوف حتى يكون المحذوف قد بقي عليه دليل ، إذ قد أبقيت فاؤه وحذفت فاء فانفلق ، واتصلت بانفلق فاء فضرب - تكلف وتخرص على العرب بغير دليل . وقد ثبت في لسان العرب حذف المعطوف عليه وفيه الفاء حيث لا معطوف بالفاء موجود ، قال تعالى : ( فأرسلوني يوسف أيها الصديق ) ، التقدير : فأرسلوه فقال . فحذف المعطوف عليه والمعطوف ، وإذا جاز حذفهما معا ، فلأن يجوز حذف كل منهما وحده أولى . وزعم أن الفاء ليست للعطف ، بل هي جواب شرط محذوف ، قال : فإن ضربت فقد انفجرت ، كما ذكرنا في قوله : ( الزمخشري فتاب عليكم ) ، وهي على هذا فاء فصيحة لا تقع إلا في كلام بليغ ، اهـ كلامه .
وقد تقدم لنا الرد على في هذا التقدير في قوله : ( الزمخشري فتاب عليكم ) ، بأن إضمار مثل هذا الشرط لا يجوز ، وبينا ذلك هناك ، وفي قوله أيضا إضمار ( قد ) إذ يقدر : فقد تاب عليكم ، وقد انفجرت ، ولا يكاد يحفظ من لسانهم ذلك ، إنما تكون بغير فاء ، أو إن دخلت الفاء فلا بد من إظهار قد ، وما دخلت عليه قد يلزم أن يكون ماضيا لفظا ومعنى ، نحو قوله : ( وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك ) ، وإذا كان ماضيا لفظا ومعنى ، استحال أن يكون بنفسه جواب الشرط ، فاحتيج إلى تأويل وإضمار جواب شرط .
ومعلوم أن الانفجار على ما قدر يكون مترتبا على أن يضرب ، وإذا كان مترتبا على مستقبل ، وجب أن يكون مستقبلا ، وإذا كان مستقبلا امتنع أن تدخل عليه ( قد ) التي من شأنها أن لا تدخل في شبه جواب الشرط على الماضي إلا ويكون معناه ماضيا نحو الآية ، ونحو قولهم : إن تحسن إلي فقد أحسنت إليك ، ويحتاج إلى تأويل كما ذكرنا . وليس هذا الفعل بدعاء فتدخله الفاء فقط ويكون معناه الاستقبال ، وإن كان بلفظ الماضي نحو : إن زرتني فغفر الله لك . وأيضا فالذي يفهم من الآية أن الانفجار قد وقع وتحقق ، ولذلك قال : ( قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا ) ، وجعله جواب شرط محذوف على ما ذهب إليه هذا الرجل يجعله غير واقع ، إذ يصير مستقبلا لأنه معلق على تقدير وجود مستقبل ، والمعلق على تقدير وجود مستقبل لا يقتضي إمكانه فضلا عن وجوده ، فما ذهب إليه فاسد في التركيب العربي ، وفاسد من حيث المعنى ، فوجب طرحه ، وأين هذا من قوله : وهي على هذا فاء فصيحة لا تقع إلا في كلام بليغ .
وجاء هنا : ( انفجرت ) وفي الأعراف ( انبجست ) ، فقيل : هما سواء ، انفجر وانبجس وانشق مترادفات . وقيل : بينهما فرق ، وهو أن الانبجاس هو أول خروج الماء ، والانفجار اتساعه وكثرته . وقيل : الانبجاس خروجه من الصلب ، والانفجار خروجه من اللين . وقيل : الانبجاس هو الرشح ، والانفجار هو السيلان ، وظاهر القرآن استعمالهما بمعنى واحد ; لأن الآيتين قصة واحدة .
( منه ) متعلق بقوله : فانفجرت ، ومن هنا لابتداء الغاية ، والضمير عائد على الحجر المضروب ، فانفجار الماء كان من الحجر لا من المكان ، كما قال تعالى : ( وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار ) ولو كان هذا التركيب في غير كلام الله تعالى لأمكن أن يعود الضمير على الضرب ، وهو المصدر المفهوم من الكلام قبله ، وأن تكون ( من ) للسبب ، أي فانفجرت بسبب الضرب ، ولكن لا يجوز أن يرتكب مثل هذا في كلام الله تعالى ; لأنه لا ينبغي أن يحمل إلا على أحسن الوجوه في التركيب وفي المعنى ، إذ هو أفصح الكلام . وفي هذا الانفجار من الإعجاز ظهور نفس الماء من حجر لا اتصال له بالأرض ، فتكون مادته منها ، وخروجه كثيرا من حجر صغير ، وخروجه بقدر [ ص: 229 ] حاجتهم ، وخروجه عند الضرب بالعصا ، وانقطاعه عند الاستغناء عنه .
( اثنتا عشرة ) : التاء في اثنتا للتأنيث ، وفي ثنتا للإلحاق ، وهذه نظير ابنة وبنت . وقرأ الجمهور : ( عشرة ) بسكون الشين . وقرأ مجاهد ، وطلحة ، وعيسى ، ، ويحيى بن وثاب ، وابن أبي ليلى ويزيد : بكسر الشين . وروى ذلك نعيم السعيدي عن أبي عمرو ، والمشهور عنه الإسكان ، وتقدم أنها لغة تميم ، وكسرهم لها نادر في قياسهم لأنهم يخففون ( فعلا ) يقولون في نمر : نمر ، وقرأ ابن الفضل الأنصاري ، بفتح الشين . وروي عن والأعمش الإسكان والكسر أيضا . قال الأعمش : الفتح لغة . وقال الزمخشري ابن عطية : هي لغة ضعيفة . وقال المهدوي : فتح الشين غير معروف ، ويحتمل أن تكون لغة ، وقد نص بعض النحويين على أن فتح الشين شاذ ، و ( عشرة ) في موضع خفض بالإضافة ، وهو مبني لوقوعه موقع النون ، فهو مما أعرب فيه الصدر وبني العجز ، ألا ترى أن اثنتي معرب إعراب المثنى لثبوت ألفه رفعا وانقلابها نصبا وجرا ، وأن عشرة مبني ؟ ولما تنزلت منزلة نون اثنتين لم يصح إضافتها ، فلا يقال : اثنتا عشرتك . وفي محفوظي أن ابن درستويه ذهب إلى أن اثنا واثنتا وثنتا مع عشر مبني ، ولم يجعل الانقلاب دليل الإعراب .
( عينا ) : منصوب على التمييز ، وإفراد التمييز المنصوب في باب العدد لازم عند الجمهور ، وأجاز الفراء أن يكون جمعا ، وكان هذا العدد دون غيره لكونهم كانوا اثني عشر سبطا ، وكان بينهم تضاغن وتنافس ، فأجرى الله لكل سبط منهم عينا يرده ، لا يشركه فيه أحد من السبط الآخر ، وذكر هذا العدد دون غيره يسمى التخصيص عند أهل علم البيان ، وهو أن يذكر نوع من أنواع كثيرة لمعنى فيه لم يشركه فيه غيره ، ومنه قوله تعالى : ( وأنه هو رب الشعرى ) ، وسيأتي بيان ذلك التخصيص فيها ، إن شاء الله تعالى ، في موضعها ، وقول الخنساء :
يذكرني طلوع الشمس صخرا وأندبه بكل مغيب شمس
اختصتهما من دون سائر الأوقات للغارة والقرى . قال بعض أهل اللطائف : خلق الله الحجارة وأودعها صلابة يفرق بها أجزاء كثيرة مما صلب من الجوامد ، وخلق الأشجار رطبة الغصون ، ليست لها قوة الأحجار ، فتؤثر فيها تفريقا بأجزائها ولا تفجير العيون ماءها ، بل الأحجار تؤثر فيها . فلما أيدت بقوة النبوة ، انفلقت بها البحار ، وتفرقت بها أجزاء الأحجار ، وسالت بها الأنهار ( إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ) .
( قد علم كل أناس مشربهم ) : جملة استئناف تدل على أن كل سبط منهم قد صار له مشرب يعرفه فلا يتعداه لمشرب غيره ، وكأنه تفسير لحكمة الانقسام إلى اثنتي عشرة عينا ، وتنبيه عليها . و ( علم ) هنا متعدية لواحد أجريت مجرى عرف ، واستعمالها كذلك كثير في القرآن ولسان العرب ، و ( كل أناس ) مخصوص بصفة محذوفة ، أي من قومه الذين استسقى لهم . والمشرب هنا مكان الشرب وجهته التي يجري منها الماء . وحمله بعضهم على المشروب وهو الماء ، والأول أولى ; لأن دلالته على المكان بالوضع ، ودلالته على الماء بالمجاز ، وهو تسمية الشيء باسم مكانه وإضافة المشرب إليهم لأنه لما تخصص كل مشرب بمن تخصص به صار كأنه ملك لهم ، وأعاد الضمير في ( مشربهم ) على معنى ( كل ) لا على لفظها ، ولا يجوز أن يعود على لفظها ، فيقال : مشربه ; لأن مراعاة المعنى هنا لازمة ; لأن ( كل ) قد أضيفت إلى نكرة ، ومتى أضيفت إلى نكرة وجب مراعاة المعنى ، فتطابق ما أضيفت إليه في عود ضمير وغيره ، قال تعالى : ( يوم ندعو كل أناس بإمامهم ) ، وقال الشاعر :
وكل أناس قاربوا قيد فحلهم ونحن حللنا قيده فهو سارب
وقال :
وكل أناس سوف تدخل بينهم دويهية تصفر منها الأنامل
[ ص: 230 ] وقال تعالى : ( كل نفس ذائقة الموت ) ، وتقول : كل رجلين يقولان ذلك ، ولا يجوز في شيء من هذا مراعاة لفظ ( كل ) وثم محذوف تقديره : مشربهم منها : أي من الاثنتي عشرة عينا . ونص على المشرب تنبيها على المنفعة العظيمة التي هي سبب الحياة ، وإن كان سرد الكلام : قد علم كل أناس عينهم ، لكن في ذكر المشرب ما ذكرناه من تسويغ الشرب لهم منها أنشئ لهم الأمر بالأكل من المن والسلوى والشرب من هذه العيون ، أو أمروا بالدوام على ذلك ; لأن الإباحة كانت معلومة من غير هذا الأمر ، والأمر بالواقع أمر بدوامه ، كقولك للقائم : قم .
( كلوا واشربوا ) : هو على إضمار قول ، أي وقلنا لهم ، وهذا الأمر أمر إباحة . قال السلمي : مشرب كل أحد حيث أنزله رائده ، فمن رائده نفسه مشربه الدنيا ، أو قلبه فمشربه الآخرة ، أو سره فمشربه الجنة ، أو روحه فمشربه السلسبيل ، أو ربه فمشربه الحضرة على المشاهدة حيث يقول : ( وسقاهم ربهم شرابا طهورا ) ، طهرهم به عن كل ما سواه ، وبدئ بالأكل لأنه المقصود أولا ، وثنى بالشرب لأن الاحتياج إليه حاصل عن الأكل ، ولأن ذكر المن والسلوى متقدم على انفجار الماء .
( من رزق الله ) من : لابتداء الغاية ، ويحتمل أن تكون للتبعيض . ولما كان مأكولهم ومشروبهم حاصلين لهم من غير تعب منهم ولا تكلف ، أضيفا إلى الله تعالى ، وهذا التفات ، إذ تقدم ( فقلنا اضرب ) ولو جرى على نظم واحد لقال : من رزقنا ، إلا إن جعلت الإضمار قبل كلوا مسندا إلى موسى ، أي وقال موسى : ( كلوا واشربوا ) فلا يكون فيه التفات ، و ( من رزق الله ) متعلق بقوله : واشربوا ، وهو من إعمال الثاني على طريقة اختيار أهل البصرة ، إذ لو كان من إعمال الأول لأضمر في الثاني ما يحتاجه ، فكان يكون : كلوا واشربوا منه من رزق الله ، ولا يجوز حذف ( منه ) إلا في ضرورة على ما نص بعضهم ، والضرورة والقليل لا يحمل كلام الله عليهما ، والرزق هنا هو المرزوق ، وهو الطعام من المن والسلوى ، والمشروب من ماء العيون . وقيل : هو الماء ينبت منه الزروع والثمار ، فهو رزق يؤكل منه ويشرب ، وهذا القول يكون فيه من رزق الله ، يجمع فيه بين الحقيقة والمجاز ; لأن الشرب من الماء حقيقة ، والأكل لا يكون إلا مما نشأ من الماء ، لا أن الأكل من الماء حقيقة ، فحمل الرزق على القدر المشترك بين الطعام والماء أولى من هذا القول .
ولما كان مطعومهم ومشروبهم لا كلفة عليهم ولا تعب في تحصيله حسنت إضافته إلى الله تعالى ، وإن كانت جميع الأرزاق منسوبة إلى الله تعالى ، سواء كانت مما تسبب العبد في كسبها أم لا ، واختص بالإضافة للفظ الله ، إذ هو الاسم العلم الذي لا يشركه فيه أحد ، الجامع لسائر الأسماء ( الله الذي خلقكم ثم رزقكم ) قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله ) ( أمن يبدؤ الخلق ثم يعيده ) ، و ( من يرزقكم من السماء والأرض ) ، ( أإله مع الله ) ؟ واحتجت المعتزلة بهذه الآية على أن الرزق هو الحلال ; لأن أقل درجات هذا الأمر أن يكون للإباحة ، واقتضى أن يكون الرزق مباحا ، فلو وجد رزق حرام لكان الرزق مباحا وحراما ، وأنه غير جائز ، والجواب : إن الرزق هنا ليس بعام إذا أريد به المن والسلوى والماء المنفجر من الحجر ، ولا يلزم من حلية معين ما من أنواع الرزق حلية جميع الرزق ، وفي هذه الآية دليل على جواز أكل الطيبات من الطعام ، وشرب المستلذ من الشراب ، والجمع بين اللونين والمطعومين ، وكل ذلك بشرط الحل ، وقد صح ، وأنه كان يشرب الماء البارد العذب ، وكانت تنبذ له فيه التمرات ، وجمع بين القثاء والرطب ، وسقى بعض نسائه الماء . وقد نقل عن جماعة من الصحابة والتابعين أنهم كانوا يتركون اللذيذ من الطعام والشهي من الشراب رغبة فيما عند الله تعالى . أن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، كان يحب الحلواء والعسل
( ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) : لما أمروا بالأكل والشرب من رزق الله ، ولم يقيد ذلك عليهم بزمان ولا مكان ولا مقدار من [ ص: 231 ] مأكول أو مشروب ، كان ذلك إنعاما وإحسانا جزيلا إليهم ، واستدعى ذلك التبسط في المآكل والمشارب ، وأنه ينشأ عن ذلك القوة الغضبية ، والقوة الاستعلائية . نهاهم عما يمكن أن ينشأ عن ذلك ، وهو الفساد ، حتى لا يقابلوا تلك النعم بما يكفرها ، وهو الفساد في الأرض . قال ابن عباس وأبو العالية : معناه ولا تسعوا . وقال قتادة : ولا تسيروا . وقيل : لا تتظالموا الشرب فيما بينكم ; لأن كل سبط منكم قد جعل له شرب معلوم . وقيل : معناه : لا تؤخروا الغداء ، فكانوا إذا أخروه فسد . وقيل : معناه لا تخالطوا المفسدين . وقيل : معناه لا تتمادوا في فسادكم . وقيل : لا تطغوا ، قاله ابن زيد . وهذه الأقوال كلها قريب بعضها من بعض .
( في الأرض ) الجمهور على أنها أرض التيه ، ويجوز أن يريدها وغيرها مما قدر أن يصلوا إليها فينالها فسادهم ، ويجوز أن يريد الأرضين كلها . و ( ال ) لاستغراق الجنس ، ويكون فسادهم فيها من جهة أن كثرة العصيان والإصرار على المخالفات والبطر يؤذن بانقطاع الغيث وقحط البلاد ونزع البركات ، وذلك انتقام يعم الأرض بالفساد .
( مفسدين ) حال مؤكدة .
قال القشيري ، في قوله تعالى : ( وإذ استسقى ) الآية أن الذي قدر على إخراج الماء من الصخرة الصماء كان قادرا على إروائهم بغير ماء ، ولكن لإظهار أثر المعجزة فيه ، واتصال محل الاستعانة إليه ، وليكون لموسى - عليه السلام - في فضل الحجر مع نفسه شغل ، ولتكليفه أن يضرب بالعصا ، نوع من المعالجة ، ثم أراد أن يكون كل سبط جاريا على سننه ، غير مزاحم لصاحبه ، وحين كفاهم ما طلبوه أمرهم بالشكر وحفظ الأمر وترك احتقاب الوزر ، فقال : ( ولا تعثوا ) . والمناهل مختلفة ، وكل يرد مشربه : فمشرب فرات ، ومشرب أجاج ، ومشرب صاف ، ومشرب رنق ، وسياق كل قوم يقودهم ، فالنفوس ترد مناهل المنى ، والقلوب ترد مشارب التقى ، والأرواح ترد مناهل الكشف ، والمشاهدات والأسرار ترد مناهل الحقائق بالاختطاف من حقيقة الوحدة والذات . انتهى كلامه ملخصا .