كذاك الذي يبغي على الناس ظالما تصبه على رغم عواقب ما صنع
الثاني : أن يكون إفراد الضمير ، وإن كان عائدا على جمع اكتفاء بالإفراد عن الجمع كما تكتفي بالمفرد الظاهر عن الجمع ، وقد جاء مثل ذلك في لسان العرب ، أنشد أبو الحسن :
وبالبدو منا أسرة يحفظوننا سراع إلى الداعي عظام كراكره
أي كراكرهم . والثالث : أن يكون الفاعل الذي في استوقد ليس عائدا على الذين ، وإنما هو عائد على اسم الفاعل المفهوم من استوقد ، التقدير استوقد هو ، أي المستوقد ، فيكون نحو قوله تعالى : ( ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ) أي هو ، أي البداء المفهوم من بدا على أحد التأويلات في الفاعل في الآية ، وفي العائد على الذين وجهان على هذا التأويل . أحدهما : أن يكون حذف وأصله لهم ، أي كمثل الذي استوقد لهم المستوقد نارا وإن لم تكن فيه شروط الحذف المقيس ، فيكون مثل قول الشاعر :
[ ص: 78 ]
ولو أن ما عالجت لين فؤادها فقسا استلين به للان الجندل
يريد ما عالجت به ، فحذف حرف الجر والضمير ، وإن لم يكن فيه شروط الحذف المقيس ، وهي مذكورة في مبسوطات كتب النحو ، وضابطها أن يكون الضمير مجرورا بحرف جر ليس في موضع رفع ، وأن يكون الموصول ، أو الموصوف به الموصول ، أو المضاف للموصول قد جر بحرف مثل ذلك الحرف لفظا ومعنى ، وأن يكون الفعل الذي تعلق به الحرف الذي جر الضمير ، مثل ذلك الفعل الذي تعلق به الحرف السابق . والوجه الثاني : أن تكون الجملة الأولى الواقعة صلة لا عائد فيها ، لكن عطف عليها جملة بالفاء ، وهي جملة لما وجوابها ، وفي ذلك عائد على الذي ، فحصل الربط بذلك العائد المتأخر ، فيكون شبيها بما أجازوه من الربط في باب الابتداء من قولهم : زيد جاءت هند فضربتها ، ويكون العائد على الذين الضمير الذي في جواب لما ، وهو قوله تعالى : ( ذهب الله بنورهم ) ، ولم يذكر أحد ممن وقفنا على كلامه تخريج قراءة ابن السميفع .
واستوقد : استفعل ، وهي بمعنى أفعل . حكى أبو زيد : أوقد واستوقد بمعنى ، ومثله أجاب واستجاب ، وأخلف لأهله واستخلف أي خلف الماء ، أو للطلب ، جوز المفسرون فيها هذين الوجهين من غير ترجيح ، وكونها بمعنى أوقد ، قول الأخفش ، وهو أرجح لأن جعلها للطلب يقتضي حذف جملة حتى يصح المعنى ، وجعلها بمعنى أوقد لا يقتضيه . ألا ترى أنه يكون المعنى في الطلب استدعوا نارا فأوقدوها ، ( فلما أضاءت ما حوله ) ؛ لأن الإضاءة لا تتسبب عن الطلب ، إنما تتسبب عن الاتقاد ، فلذلك كان حملها على غير الطلب أرجح ، والتشبيه وقع بين قصة وقصة ، فلا يحتاج في نحو هذا التشبيه إلى مقابلة جماعة بجماعة . ألا ترى إلى قوله تعالى : ( مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا ) ، وعلى أنه في قوله : ( كمثل الذي استوقد نارا ) ، هو من قبيل المقابلة أيضا ؟ ألا ترى أن المعنى هو كمثل الجمع ؟ أو الفوج الذي استوقد ، فهو من المفرد اللفظ المجموع المعنى . على أن من المفسرين من تخيل أنه مفرد ورام مقابلة الجمع بالجمع ، فادعى أن ذلك هو على حذف مضاف ، التقدير كمثل أصحاب الذي استوقد ، ولا حاجة إلى هذا الذي قدره لأنه لو فرضناه مفردا لفظا ومعنى لما احتيج إلى ذلك ؛ لأن التشبيه إنما جرى في قصة بقصة ، وإذا كان كذلك فلا تشترط المقابلة ، كما قدمنا ، ونكر نارا وأفردها ؛ لأن مقابلها من وصف المنافق إنما هو نزر يسير من التقييد بالإسلام ، وجوانحه منطوية على الكفر والنفاق مملوأة به ، فشبه حاله بحال من استوقد نارا ما ؛ إذ لا يدل إلا على المطلق ، لا على كثرة ولا على عهد ، والفاء في فلما للتعقيب ، وهي عاطفة جملة الشرط على جملة الصلة ، ومن زعم أنها دخلت لما تضمنته الصلة من الشرط وقدره إن استوقد فهو فاسد من وجوه ، وقد تقدم الرد على ما يشبه هذا الزعم في قوله : ( فما ربحت تجارتهم ) ، فأغنى عن إعادته هنا .