فلا تتركني بالوعيد كأنني إلى الناس مطلي به القار أجرب
ولا حجة في شيء من ذلك . وقيل : إلى بمعنى الباء ; لأن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض ، وهذا ضعيف ، إذ نيابة الحرف عن الحرف لا يقول بها سيبويه والخليل ، وتقرير هذا في النحو . وشياطينهم : هم اليهود الذين كانوا يأمرونهم بالتكذيب ، قاله ، أو رؤساؤهم في الكفر ، قاله ابن عباس . وروي أيضا عن ابن مسعود : أو شياطين الجن ، قاله ابن عباس الكلبي ، أو كهنتهم ، قاله الضحاك وجماعة . وكان في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الكهنة جماعة منهم : كعب بن الأشرف من بني قريظة ، وأبو بردة في بني أسلم ، وعبد الدار في جهينة ، وعوف بن عامر في بني أسد ، وابن السوداء في الشام ، وكانت العرب يعتقدون فيهم الاطلاع على علم الغيب ، ويعرفون الأسرار ، ويداوون المرضى ، وسموا شياطين لتمردهم وعتوهم ، أو باسم قرنائهم من الشياطين ، إن فسروا بالكهنة ، أو لشبههم بالشياطين في وسوستهم ، وغرورهم ، وتحسينهم للفواحش وتقبيحهم للحسن . والجمهور على تحريك العين من معكم ، وقرئ في الشاذ : إنا معكم ، وهي لغة غنم وربيعة ، وقد اختلف القولان منهم ، فقالوا للمؤمنين : آمنا ، ولشياطينهم إنا معكم . فانظر إلى تفاوت القولين ، فحين لقوا المؤمنين قالوا آمنا ، أخبروا بالمطلق ، كما تقدم ، من غير توكيد ; لأن مقصودهم الإخبار بحدوث ذلك ونشئه من قبلهم ، لا في ادعاء أنهم أوحديون فيه ، أو لأنه لا تطوع بذلك ألسنتهم لأنه لا باعث لهم على الإيمان حقيقة ، أو لأنه لو أكدوه ما راج ذلك على المؤمنين فاكتفوا بمطلق الإيمان ، وذلك خلاف ما أخبر الله عن المؤمنين بقوله : ( ربنا إننا آمنا ) ، وحين لقوا شياطينهم ، أو خلوا إليهم قالوا : إنا معكم ، فأخبروا أنهم موافقوهم ، وأخرجوا الأخبار في جملة اسمية مؤكدة بإن ليدلوا بذلك على ثباتهم في دينهم ، ثم بينوا أن ما أخبروا به الذين آمنوا إنما كان على سبيل الاستهزاء ، فلم يكتفوا بالإخبار بالموافقة ، بل بينوا أن سبب مقالتهم للمؤمنين إنما هو الاستهزاء والاستخفاف ، لا أن ذلك صادر منهم عن صدق وجد ، وأبرزوا هذا في الإخبار في جملة اسمية مؤكدة بإنما مخبر عن المبتدأ فيها باسم الفاعل الذي يدل على الثبوت ، وأن الاستهزاء وصف ثابت لهم ، لا أن ذلك تجدد عندهم ، بل ذلك من خلقهم وعادتهم مع المؤمنين ، وكأن هذه الجملة وقعت جوابا لمنكر عليهم قولهم : إنا معكم ، كأنه قال : كيف تدعون أنكم معنا وأنتم مسالمون للمؤمنين تصدقونهم ، وتكثرون سوادهم ، وتستقبلون قبلتهم ، وتأكلون ذبائحهم ؟ فأجابوهم بقولهم : ( إنما نحن مستهزئون ) ، أي مستخفون بهم ، نصانع بما نظهر من ذلك عن دمائنا وأموالنا وذرياتنا ، فنحن نوافقهم ظاهرا ونوافقكم باطنا ، والقائل إنا معكم ، إما المنافقون لكبارهم ، وإما كل المنافقين للكافرين ، وقرئ : مستهزئون ، بتحقيق الهمزة ، وهو الأصل ، وبقلبها ياء مضمومة لانكسار ما قبلها ، ومنهم من يحذف الياء تشبيها بالياء الأصلية في نحو : يرمون ، فيضم الراء . ومذهب - رحمه الله - في تحقيقها : أن تجعل بين بين . ومذهب سيبويه أبي الحسن : أن تقلب ياء قلبا صحيحا . قال أبو الفتح : حال الياء المضمومة منكر ، كحال الهمزة المضمومة . والعرب تعاف ياء مضمومة قبلها كسرة ، وأكثر القراء على ما ذهب إليه ، انتهى . وهل الاجتماع والمعية في الدين أو في النصرة والمعونة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، أو في اتفاقهم مع الكفار على اطلاعهم على أحوال المؤمنين وإعلامهم بما أجمعوا عليه من الأمر وأخفوه من المكايد ، أو في اتفاقهم مع الكفار على أذى المسلمين وتربصهم بهم الدوائر وفرحهم بما يسوء المسلمين وحزنهم بما يسرهم وقصدهم إخماد كلمة الله ؟ [ ص: 70 ] أقوال أربعة ، والدواعي إلى الاستهزاء : خوف الأذى ، واستجلاب النفع ، والهزل ، واللعب . والله - تعالى - منزه عن ذلك ، فلا يصح إضافة الاستهزاء الذي هذه دواعيه إلى الله - تعالى - . فيحتمل أن يكون الاستهزاء المسند إلى الله - تعالى - كناية عن مجازاته لهم ، وأطلق اسم الاستهزاء على المجازاة ليعلم أن ذلك جزاء الاستهزاء ، أو عن معاملته لهم بمثل ما عاملوا به المؤمنين ، فأجرى عليهم أحكام المؤمنين من حقن الدم وصون المال والإشراك في المغنم مع علمه بكفرهم . وأطلق على الشيء ما أشبهه صورة لا معنى ، أو عن التوطئة والتجهيل ، لإقامتهم على كفرهم ، وسمى التوطئة لهم استهزاء لأنه لم يعجل لهم العقوبة ، بل أملى وأخرهم إلى الآخرة ، أو عن فتح باب الجنة فيسرعون إليه فيغلق ، فيضحك منهم المؤمنون ، أو عن خمود النار فيمشون فيخسف بهم ، أو عن ضرب السور بينهم وبين المؤمنين وهو السور المذكور في الحديد ، أو عن قوله تعالى : ( سيبويه ذق إنك أنت العزيز الكريم ) ، أو عن تجديد الله لهم نعمة كلما أحدثوا ذنبا ، فيظنون أن ذلك لمحبة الله لهم ، أو عن الحيلولة بين المنافقين وبين النور الذي يعطاه المؤمنون ، كما ذكروا أنه روي في الحديث ، أو عن طردهم عن الجنة ، إذا أمر بناس منهم إلى الجنة ودنوا منها ووجدوا ريحها ونظروا إلى ما أعد الله فيها لأهلها ، وهو حديث فيه طول ، روي عن ، ونحا هذا المنحى عدي بن حاتم ، ابن عباس والحسن . وفي مقابلة استهزائهم بالمؤمنين باستهزاء الله بهم ما يدل على عظم شأن المؤمنين وعلو منزلتهم ، وليعلم المنافقون أن الله هو الذي يذب عنهم ويحارب من حاربهم . وفي افتتاح الجملة باسم الله التفخيم العظيم ، حيث صدرت الجملة به ، وجعل الخبر فعلا مضارعا يدل عندهم على التجدد والتكرر ، فهو أبلغ في النسبة من الاستهزاء المخبر به في قولهم ، ثم في ذلك التنصيص على الذين يستهزئ الله بهم ، إذ عدى الفعل إليهم فقال : يستهزئ بهم وهم لم ينصوا حين نسبوا الاستهزاء إليهم على من تعلق به الاستهزاء ، فلم يقولوا : إنما نحن مستهزئون بهم وذلك لتحرجهم من إبلاغ ذلك للمؤمنين فينقمون ذلك عليهم ، فأبقوا اللفظ محتملا أن لو حوققوا على ذلك لكان لهم مجال في الذب عنهم أنهم لم يستهزئوا بالمؤمنين . ألا ترى إلى مداراتهم عن أنفسهم بقولهم : آمنا بالله وباليوم الآخر ، وبقولهم : إذا لقوهم قالوا آمنا ، فهم عند لقائهم لا يستطيعون إظهار المداراة ، ولا مشاركتهم بما يكرهون ، بل يظهرون الطواعية والانقياد . وقرأ ابن محيصن وشبل : يمدهم ، وتروى عن ابن كثير : ونسبة المد إلى الله حقيقة ، إذ هو موجد الأشياء والمنفرد باختراعها . والمعنى : أن الله - تعالى - يطول لهم في الطغيان . وقد ذهب إلى تأويل المد المنسوب إلى الله - تعالى - بأنه منع الألطاف وخذلانهم بسبب كفرهم وإصرارهم ، بقيت قلوبهم تتزايد الظلمة فيها تزايد النور في قلوب المؤمنين ، فسمي ذلك التزايد مدا وأسند إلى الله لأنه مسبب عن فعله بهم بسبب كفرهم ، أو بأن المد هو على معنى القسر والإلجاء . قال : أو على أن يسند فعل الشيطان إلى الله لأنه بتمكينه وإقداره والتخلية بينه وبين إغواء عباده ، وإنما ذهب إلى التأويل في المد لأن مد الله لهم في الطغيان قبيح ، والله منزه عن فعل القبيح . والتأويل الأول الذي ذكره الزمخشري : قول الزمخشري الكعبي وأبي مسلم . وقال الجبائي : هو المد في العمر ، وعندنا نحن أن الله خالق الخير والشر ، وهو الهادي والمضل . وقد تقدم الكلام في نحو من هذا عند قوله تعالى : ( ختم الله على قلوبهم ) ومد الله في طغيانهم ، التمكين من العصيان ، قاله ، أو الإملاء ، قاله ابن مسعود ، أو الزيادة من الطغيان ، قاله ابن عباس مجاهد ، أو الإمهال ، قاله الزجاج وابن كيسان ، أو تكثير الأموال والأولاد وتطييب الحياة أو تطويل الأعمار ومعافاة الأبدان وصرف الرزايا وتكثير الأرزاق . وقرأ : في طغيانهم بكسر الطاء ، وهي لغة ، يقال : طغيان بالضم والكسر ، كما قالوا : لقيان ، و : غينان ، بالضم والكسر . وأمال زيد بن علي في طغيانهم ، وأضاف الطغيان إليهم لأنه [ ص: 71 ] فعلهم وكسبهم ، وكل فعل صدر من العبد صحت إضافته إليه بالمباشرة ، وإلى الله بالاختراع . وما فسر به العمه يحتمله قوله تعالى : ( الكسائي يعمهون ) ، فيكون المعنى : يترددون ويتحيرون ، أو يعمون عن رشدهم ، أو يركبون رءوسهم ولا يبصرون . قال بعض المفسرين : وهذا التفسير الأخير أقرب إلى الصواب لأنهم لم يكونوا مترددين في كفرهم ، بل كانوا مصرين عليه ، معتقدين أنه الحق ، وما سواه الباطل . يعمهون : جملة في موضع الحال ، نصب على الحال ، إما من الضمير في يمدهم وإما من الضمير في طغيانهم لأنه مصدر مضاف للفاعل ، وفي طغيانهم يحتمل أن يكون متعلقا بيمدهم ، ويحتمل أن يكون متعلقا بيعمهون . ومنع أبو البقاء أن يكون في طغيانهم ويعمهون حالين من الضمير في يمدهم ، قال : لأن العامل لا يعمل في حالين . انتهى كلامه .
وهذا الذي ذهب إليه يحتاج إلى تقييد ، وهو أن تكون الحالان لذي حال واحد ، فإن كانا لذوي حال جاز ، نحو : لقيت زيدا مصعدا منحدرا ، فأما إذا كانا لذي حال واحد ، كما ذكرناه ، ففي إجازة ذلك خلاف . ذهب قوم إلى أن ذلك لا يجوز كما لم يجز ذلك للعامل أن يقضي مصدرين ، ولا ظرفي زمان ، ولا ظرفي مكان ، فكذلك لا يقضي حالين . وخصص أهل هذا المذهب هذا القول بأن لا يكون الثاني على جهة البدل أو معطوفا ، فإنه إذا كانا كذلك جازت المسألة . قال بعضهم : إلا أفعل التفضيل ، فإنها تعمل في ظرفي زمان ، وظرفي مكان ، وحالين لذي حال ، فإن ذلك يجوز ، وهذا المذهب اختاره أبو الحسن بن عصفور . وذهب قوم إلى أنه يجوز للعامل أن يعمل في حالين لذي حال واحد ، وإلى هذا أذهب ; لأن الفعل الصادر من فاعل أو الواقع بمفعول ، يستحيل وقوعه في زمانين وفي مكانين . وأما الحالان فلا يستحيل قيامهما بذي حال واحد ، إلا إن كانا ضدين أو نقيضين . فيجوز أن تقول : جاء زيد ضاحكا راكبا ; أنه لا يستحيل مجيئه وهو ملتبس بهذين الحالين . فعلى هذا الذي قررناه من الفرق يجوز أن يجيء الحالان لذي حال واحد ، والعامل فيهما واحد .
أولئك : اسم أشير ، إلى الذين تقدم ذكرهم الجامعين للأوصاف به الذميمة من دعوى الإصلاح ، وهم المفسدون ، ونسبة السفه للمؤمنين ، وهم السفهاء ، والاستخفاف بالمؤمنين بإظهار الموافقة وهم مع الكفار . وقرأ الجمهور : اشتروا الضلالة ، بضم الواو . وقرأ أبو السماك قعنب العدوي : اشتروا الضلالة ، بالفتح . ولاعتلال ضمة الواو وجوه أربعة مذكورة في النحو ، ووجه الكسر أنه الأصل في التقاء الساكنين ، نحو : ( وأن لو استقاموا ) ، ووجه الفتح اتباعها لحركة الفتح قبلها . وأمال حمزة الهدى ، وهي لغة والكسائي بني تميم ، والباقون بالفتح ، وهي لغة قريش . والاشتراء هنا مجاز كنى به عن الاختيار ; لأن المشتري للشيء مختار له مؤثر ، فكأنه قال : اختاروا الضلالة على الهدى ، وجعل تمكنهم من اتباع الهدى كالثمن المبذول في المشترى ، وإنما ذهب في الاشتراء إلى المجاز لعدم المعاوضة ، إذ هي استبدال شيء في يدك لشيء في يد غيرك ، وهذا مفقود هنا . وقد ذهب قوم إلى أن الاشتراء هنا حقيقة لا مجاز ، والمعاوضة متحققة ، ثم راموا يقررون ذلك ، ولا يمكن أن يتقرر لأنه على كل تقدير يئول الشراء فيه إلى المجاز ، قالوا : إن كان أراد بالآية المنافقين كما قال مجاهد ، فقد كان لهم هدى ظاهر من التلفظ بالشهادة ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والصوم ، والغزو ، والقتال . فلما لم تصدق بواطنهم ظواهرهم واختاروا الكفر ، استبدلوا بالهدى الضلال ، فتحققت المعاوضة ، وحصل البيع والشراء حقيقة ، وكان من بيوع المعاطاة التي لا تفتقر إلى اللفظ ، وقالوا : لما ولدوا على الفطرة واستمر لهم حكمها إلى البلوغ وحد التكليف ، استبدلوا عنها بالكفر والنفاق فتحققت المعاوضة ، وقالوا : لما كانوا ذوي عقول متمكنين من النظر الصحيح المؤدي إلى معرفة الصواب من الخطأ ، استبدلوا بهذا الاستعداد النفيس اتباع الهوى والتقليد للآباء ، مع قيام الدليل الواضح ، فتحققت المعاوضة . قالوا : وإن كان أراد بالآية أهل الكتاب ، كما قال [ ص: 72 ] قتادة ، فقد كانوا مؤمنين بالله واليوم الآخر ، ومصدقين ببعث النبي - صلى الله عليه وسلم - ومستفتحين به ، ويدعون بحرمته ، ويهددون الكفار بخروجه ، فكانوا مؤمنين حقا . فلما بعث - صلى الله عليه وسلم - وهاجر إلى المدينة ، خافوا على رئاستهم ومآكلهم وانصراف الاتباع عنهم ، فجحدوا نبوته وقالوا : ليس هذا المذكور عندنا ، وغيروا صفته ، واستبدلوا بذلك الإيمان الكفر الذي حصل لهم ، فتحققت المعاوضة . قالوا : وإن كان أراد سائر الكفار ، كما قاله ابن مسعود ، فالمعاوضة أيضا متحققة ، إما بالمدة التي كانوا عليها على الفطرة ثم كفروا ، أو لأن الكفار كان في محصولهم المدارك الثلاثة : الحسي والنظري والسمعي ، وهذه التي تفيد العلم القطعي ، فاستبدلوا بها الجري على سنن الآباء في الكفر . وقال ابن عباس ابن كيسان : خلقهم لطاعته ، فاستبدلوا عن هذه الخلقة المرضية كفرهم وضعف قوله ; لأنه تعالى لو برأهم لطاعته ، لما كفر أحد منهم لاستحالة أن يخلق شيئا لشيء ويتخلف عن ذلك الشيء . وسيأتي الكلام على قوله تعالى : ( إلا ليعبدون ) ، وعلى ( ولذلك خلقهم ) إن شاء الله .
قال ابن عباس والحسن وقتادة والسدي : الضلالة : الكفر ، والهدى : الإيمان ، وقيل الشك واليقين ، وقيل : الجهل والعلم ، وقيل : الفرقة والجماعة ، وقيل : الدنيا والآخرة ، وقيل : النار والجنة . وعطف : فما ربحت ، بالفاء ، يدل على تعقب نفي الربح للشراء ، وأنه بنفس ما وقع الشراء تحقق عدم الربح . وزعم بعض الناس أن الفاء في قوله : ( فما ربحت تجارتهم ) دخلت لما في الكلام من معنى الجزاء ، والتقدير أن اشتروا . والذين إذا كان في صلة فعل كان في معنى الشرط ، ومثله ( الذين ينفقون أموالهم ) ، وقع الجواب بالفاء في قوله : ( فلهم أجرهم ) ، وكذلك الذي يدخل الدار فله درهم ، انتهى . وهذا خطأ لأن الذين ليس مبتدأ ، فيشبه بالشرط الذي يكون مبتدأ ، فتدخل الفاء في خبره ، كما تدخل في جواب الشرط . وأما الذين خبر عن أولئك ، وقوله : فما ربحت ليس بخبر ، فتدخله الفاء ، وإنما هي جملة فعلية معطوفة على صلة الذين ، فهي صلة لأن المعطوف على الصلة صلة ، وقوله وقع الجواب بالفاء في قوله : ( فلهم أجرهم ) خطأ ; لأنه ليس بجواب ، إنما الجملة خبر المبتدأ الذي هو ينفقون ، ولا يجوز أن يكون أولئك مبتدأ ، والذين اشتروا مبتدأ ، وفما ربحت تجارتهم خبر عن الذين ، والذين وخبره خبر عن أولئك لعدم الرابط في هذه الجملة الواقعة خبرا لأولئك . ولتحقق مضي الصلة ، وإذا كانت الصلة ماضية معنى لم تدخل الفاء في خبر موصولها المبتدأ ، ولا يجوز أن يكون أولئك مبتدأ ، والذين بدل منه ، وفما ربحت خبر لأن الخبر إنما تدخله الفاء لعموم الموصول ، ولإبدال الذين من أولئك ، صار الذين مخصوصا لأنه بدل من مخصوص ، وخبر المخصوص لا تدخله الفاء ، ولأن معنى الآية ليس إلا على كون أولئك مبتدأ والذين خبرا عنه . ونسبة الربح إلى التجارة من باب المجاز لأن الذي يربح أو يخسر إنما هو التاجر لا التجارة ، ولما صور الضلالة والهدى مشترى وثمنا ، رشح هذا المجاز البديع بقوله تعالى : ( فما ربحت تجارتهم ) ، وهذا من باب ترشيح المجاز ، وهو أن يبرز المجاز في صورة الحقيقة ، ثم يحكم عليه ببعض أوصاف الحقيقة ، فينضاف مجاز إلى مجاز ، ومن ذلك قول الشاعر :
بكى الخز من روح وأنكر جلده وعجت عجيجا من جذام المطارف
أقام الخز مقام شخص حين باشر روحا بكى من عدم ملامته ، ثم رشحه بقوله : وأنكر جلده ، ثم زاد في ترشيح المجاز بقوله : وعجت ، أي وصاحت مطارف الخز من قبيل روح هذا ، وهي : جذام . ومعنى البيت : أن روحا وقبيلته جذام لا يصلح لهم لباس الخز ومطارفه ; لأنهم لا عادة لهم بذلك ، فكنى عن التباين بينهما بما كنى فيه في البيت ، ومن ذلك قول - رضي الله عنه - : الشافعي
أيا بومة قد عششت فوق هامتي على الرغم مني حين طار غرابها
[ ص: 73 ] لما كنى عن الشيب بالبومة فأقبل عليها وناداها ، رشح هذا المجاز بقوله : قد عششت ; لأن الطائر من أفعاله اتخاذ العشة ، وقد أورد في ترشيح المجاز في كشافه مثلا . الزمخشري
وقرأ : تجاراتهم ، على الجمع ، ووجهه أن لكل واحد تجارة ، ووجه قراءة الجمهور على الإفراد أنه اكتفى به عن الجمع لفهم المعنى ، وفي قوله : فما ربحت تجارتهم ، إشعار بأن رأس المال لم يذهب بالكلية ; لأنه إنما نفى الربح ، ونفي الربح لا يدل على انتقاص رأس المال . وأجيب عن هذا بأنه اكتفى بذكر عدم الربح عن ذكر ذهاب المال لما في الكلام من الدلالة على ذلك ؛ لأن الضلال نقيض الهدى ، والنقيضان لا يجتمعان ، فاستبدالهم الضلالة بالهدى دل على ذهاب الهدى بالكلية ، ويتخرج عندي على أن يكون من باب قوله : ابن أبي عبلة
على لاحب لا يهتدي بمناره
أي لا منار له فيهتدي به ، فنفى الهداية ، وهو يريد نفي المنار ، ويلزم من نفي المنار نفي الهداية به ، فكذلك هذه الآية لما ذكر شراء شيء بشيء ، توهم أن هذا الذي فعلوه هو من باب التجارة ، إذ التجارة ليس نفس الاشتراء فقط ، وليس بتاجر ، إنما التجارة التصرف في المال لتحصيل النمو والزيادة فنفى الربح . والمقصود نفي التجارة أي لا يتوهم أن هذا الشراء الذي وقع هو تجارة فليس بتجارة ، وإذا لم يكن تجارة انتفى الربح فكأنه قال : فلا تجارة لهم ولا ربح . وقال : معناه أن الذي يطلبه التجار في متصرفاتهم شيئان : سلامة رأس المال والربح ، وهؤلاء قد أضاعوا الطلبتين معا ؛ لأن رأس المال مالهم كان هو الهدى ، فلم يبق لهم مع الضلالة ، وحين لم يبق في أيديهم إلا الضلالة لم يوصفوا بإصابة الربح ، وإن ظفروا بما ظفروا به من الأعراض الدنيوية ؛ لأن الضلال خاسر دامر ، ولأنه لا يقال لمن لم يسلم له رأس ماله قد ربح ، انتهى كلامه . ومع ذلك ليس بمخلص في الجواب لأن نفي الربح عن التجارة لا يدل على ذهاب كل المال ، ولا على الخسران فيه ؛ لأن الربح هو الفضل على رأس المال ، فإذا نفى الفضل لم يدل على ذهاب رأس المال بالكلية ، ولا على الانتقاص منه ، وهو الخسران . قيل : لما لم يكن قوله تعالى : ( الزمخشري فما ربحت تجارتهم ) مفيدا لذهاب رءوس أموالهم ، أتبعه بقوله : ( وما كانوا مهتدين ) ، فكمل المعنى بذلك ، وتم به المقصود ، وهذا النوع من البيان يقال له : التتميم ، ومنه قول امرئ القيس :
كأن عيون الوحش حول خبائنا وأرجلنا الجزع الذي لم يثقب
تمم المعنى بقوله : الذي لم يثقب ، وكمل الوصف وسمى الله - تعالى - اعتياضهم الضلالة عن الهدى تجارة ، وإن كانت التجارة هي البيع والشراء المتحقق منه الفائدة ، أو المترجى ذلك منه . وهذا الاعتياض منفي عنه ذلك ؛ لأن الكفر محبط للأعمال . قال تعالى : ( وقدمنا إلى ما عملوا ) الآية . وفي الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - سئل عن ابن جدعان وهل ينفعه وصله الرحم وإطعام المساكين ؟ فقال : " لا ، إنه لم يقل رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين " ؛ لأنهم لم يعتاضوا ذلك إلا لما تحققوا وارتجوا من الفوائد الدنيوية والأخروية . ألا ترى إلى قولهم : نحن أبناء الله وأحباؤه ، وقولهم : ( وما نحن بمعذبين ) . وكانت اليهود تزعم أنهم لا يعذبون إلا أياما معدودة ، وبعضهم يقول يوما واحدا ، وبعضهم عشرا ، وكل طائفة من الكفار تزعم أنها على الحق وأن غيرها على الباطل . فلحصول الراحة الدنيوية ورجاء الراحة الأخروية ، سمى اشتراءهم الضلالة بالهدى تجارة ، ونفى الله - تعالى - عنهم كونهم مهتدين . وهل المعنى ما كانوا في علم الله مهتدين ، أو مهتدين من الضلالة ، أو للتجارة الرابحة ، أو في اشتراء الضلالة ، أو نفى عنهم الهداية والربح ؟ لأن من التجار من لا يربح في تجارته ويكون على هدى ، وعلى استقامة ، وهؤلاء جمعوا بين نفي الربح والهداية . والذي أختاره أن قوله تعالى : ( وما كانوا مهتدين ) إخبار بأن هؤلاء ما سبقت لهم هداية بالفعل لئلا يتوهم من قوله : بالهدى ، أنهم كانوا على هدى فيما مضى ، فبين قوله : ( وما كانوا مهتدين ) مجاز قوله : بالهدى ، ودل على أن الذي [ ص: 74 ] اعتاضوا الضلالة به إنما هو التمكن من إدراك الهدى ، فالمثبت في الاعتياض غير المنفي أخيرا ؛ لأن ذاك بالقوة وهذا بالفعل . وانتصاب مهتدين على أنه خبر كان ، فهو منصوب بها وحدها خلافا لمن زعم أنه منصوب بكان والاسم معا ، وخلافا لمن زعم أن أصل انتصابه على الحال ، وهو الفراء ، قال : لشغل الاسم برفع كان ، إلا أنه لما حصلت الفائدة من جهته كان حالا خبرا فأتى معرفة ، فقيل : كان أخوك زيدا تغليبا للخبر لا للحال .
وذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات أقوالا ، أحدها : أنها نزلت في المنافقين . الثاني : في قوم أعلم الله بوصفهم قبل وجودهم ، وفيه إعلام بالمغيبات . الثالث : في عبد الله بن أبي وأصحابه نزل : ( وإذا لقوا الذين آمنوا ) والتي قبلها في جميع المنافقين ، وذكروا ما معناه أنه لقي نفرا من المؤمنين ، فقال لأصحابه : انظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم ، فذكر أنه مدح وأثنى على أبي بكر وعمر وعلي ، فوبخه علي وقال له : لا تنافق ، فقال : إلي تقول هذا ؟ والله إن إيماننا كإيمانكم ، ثم افترقوا ، فقال عبد الله لأصحابه : كيف رأيتموني فعلت ؟ فأثنوا عليه خيرا . وقد تقدمت أقاويل غير هذه الثلاثة في غضون الكلام قبل هذا .