في ليلة مرضت من كل ناحية فما يحس بها نجم ولا قمر
وقيل : المرض : الفساد ، وقال أهل اللغة : المرض والألم والوجع نظائر . الزيادة : فعلها يتعدى إلى اثنين من باب أعطى وكسى ، وقد تستعمل لازما نحو : زاد المال . أليم : فعيل من الألم بمعنى مفعل ، كالسميع بمعنى المسمع ، أو للمبالغة وأصله ألم . كان : فعل يدخل على المبتدأ والخبر بالشروط التي ذكرت في النحو ، فيدل على زمان مضمون الجملة فقط ، أو عليه وعلى الصيرورة ، وتسمى ناقصة وتكتفي بمرفوع فتارة تكون فعلا لازما وتارة متعديا ، بمعنى كفل أو غزل : كنت الصبي كفلت ، وكنت الصوف غزلته ، وهذا من غريب اللغات ، وقد تزاد ولا فاعل لها إذ ذاك خلافا لأبي سعيد ، وأحكامها مستوفاة في النحو . التكذيب : مصدر كذب ، والتضعيف فيه للرمي به كقولك : شجعته وجبنته ، أي رميته بالشجاعة والجبن ، وهي أحد المعاني التي جاءت لها فعل وهي أربعة عشرة : الرمي ، والتعدية ، والتكثير ، والجعل على صفة ، والتسمية ، والدعاء للشيء أو عليه ، والقيام على الشيء ، والإزالة ، والتوجه ، واختصار الحكاية ، وموافقة تفعل وفعل ، والإغناء عنهما ، مثل ذلك : جبنته ، وفرحته ، وكثرته ، وفطرته ، وفسقته ، وسقيته ، وعقرته ، ومرضته ، وقذيت عينه ، وشوق ، وأمن ، قال : آمين ، وولى : موافق تولى ، وقدر : موافق قدر ، وحمر : تكلم بلغة حمير ، وعرد في القتال . وأما الكذب فسيأتي الكلام عليه ، لما ذكر من الكتاب هدى لهم ، وهم المتقون الذين جمعوا أوصاف الإيمان من خلوص الاعتماد وأوصاف الإسلام من الأفعال البدنية والمالية ، ولما ذكر ما آل أمرهم إليه في الدنيا من الهدى وفي الآخرة من الفلاح . ثم أعقب ذلك بمقابلهم من الكفار الذين ختم عليهم بعدم الإيمان ، وختم لهم بما يئولون إليه من العذاب في النيران . وبقي قسم ثالث أظهروا الإسلام مقالا وأبطنوا الكفر اعتقادا وهم المنافقون ، أخذ يذكر شيئا من أحوالهم . ومن في قوله : ومن الناس للتبعيض ، وأبعد من ذهب إلى أنها لبيان الجنس لأنه لم يتقدم شيء مبهم فيبين جنسه . والألف واللام في الناس للجنس أو للعهد ، فكأنه قال : ومن الكفار السابق ذكرهم من يقول ولا يتوهم أنهم غير مختوم على قلوبهم ، كما ذهب إليه فقال : فإن قلت : كيف يجعلون بعض أولئك والمنافقين غير مختوم على قلوبهم ؟ وأجاب بأن الكفر جمع الفريقين وصيرهم جنسا واحدا ، وكون المنافقين نوعا من نوعي هذا الجنس مغايرا للنوع الآخر بزيادة زادوها على الكفر الجامع بينهما من الخديعة والاستهزاء لا يخرجهم من أن يكونوا بعضا من الجنس ، انتهى . لأن المنافقين داخلون في الأوصاف التي ذكرت للكفار من استواء الإنذار وعدمه ، وكونهم لا يؤمنون ، وكونهم مختوما على قلوبهم وعلى سمعهم ومجعولا على أبصارهم غشاوة ومخبرا عنهم أنهم لهم عذاب عظيم ، فهم قد اندرجوا في عموم الذين كفروا وزادوا أنهم قد ادعوا الإيمان وأكذبهم الله في دعواهم . وسيأتي شرح ذلك . الزمخشري
[ ص: 54 ] وسأل سائل : ما معنى : ( ومن الناس من يقول ) ؟ ومعلوم أن الذي يقول هو من الناس ، فكيف يصلح لهذا الجار والمجرور وقوعه خبرا للمبتدأ بعده ؟ فأجيب بأن هذا تفصيل معنوي لأنه تقدم ذكر المؤمنين ، ثم ذكر الكافرين ، ثم أعقب بذكر المنافقين ، فصار نظير التفصيل اللفظي في قوله : ( ومن الناس من يعجبك ) ، ( ومن الناس من يشري نفسه ) ، فهو في قوة تفصيل الناس إلى مؤمن وكافر ومنافق ، كما فصلوا إلى من يعجبك قوله ، ومن يشري نفسه ، ومن : في قوله تعالى : ( من يقول ) نكرة موصوفة مرفوعة بالابتداء ، والخبر الجار والمجرور المتقدم الذكر . ويقول : صفة ، هذا اختيار أبي البقاء ، وجوز هذا الوجه . وكأنه قال : ومن الناس ناس يقولون كذا ، كقوله : ( الزمخشري من المؤمنين رجال صدقوا ) ، قال : إن جعلت اللام للجنس يعني في قوله : ومن الناس ، قال : وإن جعلها للعهد فموصولة كقوله : ( ومنهم الذين يؤذون النبي ) . واستضعف أبو البقاء أن تكون موصولة بمعنى الذي قال : لأن الذي يتناول قوما بأعيانهم ، والمعنى هنا على الإبهام والتقدير ، ومن الناس فريق يقول : وما ذهب إليه من أن اللام في الناس ، إن كانت للجنس كانت من نكرة موصوفة ، وإن كانت للعهد كانت موصولة ، أمر لا تحقيق له ، كأنه أراد مناسبة الجنس للجنس والعهد للعهد ، ولا يلزم ذلك ، بل يجوز أن تكون اللام للجنس ومن موصولة ، ويجوز أن تكون للعهد ، ومن نكرة موصوفة فلا تلازم بين ما ذكره . الزمخشري
وأما استضعاف أبي البقاء كون من موصولة وزعمه أن المعنى على الإبهام فغير مسلم ، بل المعنى أنها نزلت في ناس بأعيانهم معروفين ، وهم : عبد الله بن أبي ابن سلول وأصحابه ، ومن وافقه من غير أصحابه ممن أظهر الإسلام وأبطن الكفر ، وقد وصفهم الله - تعالى - في ثلاث عشرة آية ، وذكر عنهم أقاويل معينة قالوها ، فلا يكن ذلك صادرا إلا من معين فأخبر عن ذلك المعين . والذي نختار أن تكون من موصولة ، وإنما اخترنا ذلك لأنه الراجح من حيث المعنى ومن حيث التركيب الفصيح . ألا ترى جعل من نكرة موصوفة إنما يكون ذلك إذا وقعت في مكان يختص بالنكرة في أكثر كلام العرب ، وهذا الكلام ليس من المواضع التي تختص بالنكرة ، وأما أن تقع في غير ذلك فهو قليل جدا ، حتى أن أنكر ذلك وهو إمام نحو وسامع لغة ، فلا نحمل كتاب الله ما أثبته بعض النحويين في قليل وأنكر وقوعه أصلا الكسائي ، فلذلك اخترنا أن تكون موصولة . ومن من الأسماء التي لفظها مفرد مذكر دائما ، وتنطلق عليه فروع المفرد والمذكر إذا كان معناها كذلك فتارة يراعى اللفظ فيفرد ما يعود على من مذكرا ، وتارة يراعى المعنى فيحمل عليه ويطلق المعربون ذلك ، وفي ذلك تفصيل كثير ذكر في النحو . قال الكسائي ابن عطية : من يقول آمنا رجع من لفظ الواحد إلى لفظ الجمع بحسب لفظ من ومعناها وحسن ذلك لأن الواحد قبل الجمع في الرتبة ، ولا يجوز أن يرجع متكلم من لفظ جمع إلى توحد ، لو قلت : ومن الناس من يقولون ويتكلم لم يجز ، انتهى كلامه ، وما ذكر من أنه لا يرجع من لفظ جمع إلى توحد خطأ ، بل نص النحويون على جواز الجملتين ، لكن البدء بالحمل على اللفظ ثم على المعنى أولى من الابتداء بالحمل على المعنى ، ثم يرجع إلى الحمل على اللفظ ، ومما رجع فيه إلى الإفراد بعد الجمع قول الشاعر :
لست ممن يكع أو يستكينو ن إذا كافحته خيل الأعادي
وفي بعض هذه المسائل تفصيل ، كما أشرنا إليه . ويقول : أفرد فيه الضمير مذكرا على لفظ من ، وآمنا : جملة هي المقولة ، فهي في موضع المفعول ، وأتى بلفظ الجمع رعيا للمعنى ، إذ لو راعى لفظ من قال آمنت . واقتصروا من متعلق الإيمان على الله واليوم الآخر حيدة منهم عن أن يعترفوا بالإيمان برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبما أنزل إليه وإيهاما أنهم من طائفة المؤمنين ، وإن كان هؤلاء ، كما زعم ، يهود . [ ص: 55 ] فإيمانهم بالله ليس بإيمان ، كقولهم : ( الزمخشري عزير ابن الله ) وباليوم الآخر ، كذلك لأنهم يعتقدونه على خلاف صفته ، وهم لو قالوا ذلك على أصل عقيدتهم لكان كفرا ، فكيف إذا قالوا ذلك على طريقة النفاق خديعة للمسلمين واستهزاء بهم ؟ وفي تكرير الباء دليل على مقصود كل ما دخلت عليه الباء بالإيمان . واليوم الآخر يحتمل أن يراد به الوقت المحدود من البعث إلى استقرار كل من المؤمنين والكافرين فيما أعد لهم ، ويحتمل أن يراد به الأبد الدائم الذي لا ينقطع . وسمي آخرا لتأخره ، إما عن الأوقات المحدودة باعتبار الاحتمال الأول أو عن الأوقات المحدودة باعتبار الاحتمال الثاني . والباء في بمؤمنين زائدة والموضع نصب لأن ما حجازية وأكثر لسان الحجاز جر الخبر بالباء ، وجاء القرآن على الأكثر ، وجاء النصب في القرآن في قوله : ( ما هذا بشرا ) ، و ( ما هن أمهاتهم ) . وأما في أشعار العرب فزعموا أنه لم يحفظ منه أيضا إلا قول الشاعر :
وأنا النذير بحرة مسودة تصل الجيوش إليكم أقوادها
أبناؤها متكنفون أباهم حنقوا الصدور وما هم أولادها
ولا تختص زيادة الباء باللغة الحجازية ، بل تزاد في لغة تميم خلافا لمن منع ذلك ، وإنما ادعينا أن قوله : بمؤمنين في موضع نصب لأن القرآن نزل بلغة الحجاز ; لأنه حين حذفت الباء من الخبر ظهر النصب فيه ، ولها أحكام كثيرة في باب معقود في النحو . وإنما زيدت الباء في الخبر للتأكيد ، ولأجل التأكيد في مبالغة نفي إيمانهم ، جاءت الجملة المنفية اسمية مصدرة بـ ( هم ) ، وتسلط النفي على اسم الفاعل الذي ليس مقيدا بزمان ليشمل النفي جميع الأزمان ، إذ لو جاء اللفظ منسحبا على اللفظ المحكي الذي هو آمنا ، لكان وما آمنوا ، فكان يكون نفيا للإيمان الماضي ، والمقصود أنهم ليسوا متلبسين بشيء من الإيمان في وقت ما من الأوقات ، وهذا أحسن من أن يحمل على تقييد الإيمان المنفي ، أي وما هم بمؤمنين بالله واليوم الآخر ، ولم يرد الله - تعالى - عليهم قولهم : آمنا ، إنما رد عليهم متعلق القول وهو الإيمان ، وفي ذلك رد على الكرامية في قولهم : إن الإيمان قول باللسان وإن لم يعتقد بالقلب . وهم في قوله : ( وما هم بمؤمنين ) عائد على معنى من ، إذ أعاد أولا على اللفظ فأفرد الضمير في يقول ، ثم أعاد على المعنى فجمع . وهكذا جاء في القرآن أنه إذا اجتمع اللفظ والمعنى بدئ باللفظ ثم أتبع بالحمل على المعنى . قال تعالى : ( ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا ) ، ( ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ) الآية ، ( ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا ) .
وذكر شيخنا الإمام علم الدين أبو محمد عبد الكريم بن علي بن عمر الأنصاري الأندلسي الأصل المصري المولد والمنشأ ، المعروف بابن بنت العراقي - رحمه الله تعالى - أنه جاء موضع واحد في القرآن بدئ فيه بالحمل على المعنى أولا ثم أتبع بالحمل على اللفظ ، وهو قوله تعالى : ( وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا ) ، وسيأتي الكلام على ذلك في موضعه ، إن شاء الله تعالى . وأورد بعضهم قراءة من قرأ في الشاذ : وأن منكم لمن ليبطئن ، بضم الهمزة متخيلا أنه مما بدئ فيه بالحمل على المعنى ، وسيأتي الكلام عليه في موضعه . ولا يجيز الكوفيون الجمع بين الجملتين إلا بفاصل بينهما ، ولم يعتبر البصريون الفاصل ، قال ابن عصفور : ولم يرد السماع إلا بالفصل ، كما ذهب الكوفيون إليه ، وليس ما ذكر بصحيح ، ألا ترى قوله تعالى : ( وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ) ؟ فحمل على اللفظ في كان ، إذ أفرد الضمير وجاء الخبر على المعنى ، إذ جاء جمعا ولا فصل بين الجملتين ، وإنما جاء أكثر ذلك بالفصل لما فيه من إزالة قلق التنافر الذي يكون بين الجملتين .
وقراءة الجمهور : يخادعون الله ، مضارع خادع . وقرأ عبد الله وأبو حياة : يخدعون الله ، مضارع خدع المجرد ، ويحتمل قوله : ( يخادعون الله ) أن يكون مستأنفا ، كأن [ ص: 56 ] قائلا يقول : لم يتظاهرون بالإيمان وليسوا بمؤمنين في الحقيقة ؟ فقيل : يخادعون ، ويحتمل أن يكون بدلا من قوله : يقول آمنا ، ويكون ذلك بيانا ، لأن قولهم : آمنا وليسوا بمؤمنين في الحقيقة مخادعة ، فيكون بدل فعل من فعل لأنه في معناه ، وعلى كلا الوجهين لا موضع للجملة من الإعراب . ويحتمل أن تكون الجملة في موضع الحال ، وذو الحال الضمير المستكن في يقول ، أي ومن الناس من يقول آمنا ، مخادعين الله والذين آمنوا . وجوز أبو البقاء أن يكون حالا ، والعامل فيها اسم الفاعل الذي هو بمؤمنين ، وذو الحال الضمير المستكن في اسم الفاعل . وهذا إعراب خطأ ، وذلك أن ما دخلت على الجملة فنفت نسبة الإيمان إليهم ، فإذا قيدت تلك النسبة بحال تسلط النفي على تلك الحال ، وهو القيد ، فنفته ، ولذلك طريقان في لسان العرب : أحدهما : وهو الأكثر أن ينتفي ذلك القيد فقط ، ويكون إذ ذاك قد ثبت العامل في ذلك القيد ، فإذا قلت : ما زيد أقبل ضاحكا ، فمفهومه نفي الضحك ويكون قد أقبل غير ضاحك ، وليس معنى الآية على هذا ، إذ لا ينفي عنهم الخداع فقط ، ويثبت لهم الإيمان بغير خداع ، بل المعنى : نفي الإيمان عنهم مطلقا . والطريق الثاني : وهو الأقل ، أن ينتفي القيد وينتفي العامل فيه ، فكأنه قال في المثال السابق : لم يقبل زيد ولم يضحك ، أي لم يكن منه إقبال ولا ضحك . وليس معنى الآية على هذا ، إذ ليس المراد نفي الإيمان عنهم ونفي الخداع .
والعجب من أبي البقاء كيف تنبه لشيء من هذا فمنع أن يكون يخادعون في موضع الصفة فقال : ولا يجوز أن يكون في موضع جر على الصفة لمؤمنين ، لأن ذلك يوجب نفي خداعهم ، والمعنى على إثبات الخداع ، انتهى كلامه . فأجاز ذلك في الحال ولم يجز ذلك في الصفة ، وهما سواء ، ولا فرق بين الحال والصفة في ذلك ، بل كل منهما قيد يتسلط النفي عليه ، والله - تعالى - هو العالم الذي لا يخفى عليه شيء . فمخادعة المنافقين الله هو من حيث الصورة لا من حيث المعنى من جهة تظاهرهم بالإيمان وهم مبطنون للكفر ، قاله جماعة ، أو من حيث عدم عرفانهم بالله وصفاته فظنوا أنه ممن يصح خداعه . فالتقدير الأول مجاز والثاني حقيقة ، أو يكون على حذف مضاف ، أي يخادعون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والذين آمنوا ، فتارة يكون المحذوف مرادا وتارة لا يكون مرادا ، بل نزل مخادعتهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنزلة مخادعة الله ، فجاء : يخادعون الله ، وهذا الوجه قاله الحسن . وإذا صح نسبة مخادعتهم إلى الله - تعالى - بالأوجه التي ذكرناها ، كما ذكرناها ، فلا ضرورة تدعو إلى أن نذهب إلى أن اسم مقحم ، لأن المعنى : يخادعون الذين آمنوا ، كما ذهب إليه والزجاج ، وقال : يكون من باب : أعجبني زيد وكرمه ، المعنى هذا أعجبني كرم زيد ، وذكر زيد توطئة لذكر كرمه ، والنسبة إلى الإعجاب إلى كرمه هي المقصودة ، وجعل من ذلك ( الزمخشري والله ورسوله أحق أن يرضوه ) ، ( إن الذين يؤذون الله ورسوله ) وما ذكره في هذه المثل غير مسلم له . وللآيتين الشريفتين محامل تأتي في مكانها ، إن شاء الله تعالى . وأما أعجبني زيد وكرمه ، فإن الإعجاب أسند إلى زيد بجملته ، ثم عطف عليه بعض صفاته تمييزا لصفة الكرم من سائر الصفات التي انطوى عليها لشرف هذه الصفة ، فصار من المعنى نظيرا لقوله تعالى : ( وملائكته ورسله وجبريل وميكال ) ، فلا يدعى كما ادعى أن الاسم مقحم ، وأنه ذكر توطئة لذكر الكرم . وخادع الذي مضارعه يخادع على وزن فاعل ، وفاعل يأتي لخمسة معان : لاقتسام الفاعلية ، والمفعولية في اللفظ ، والاشتراك فيهما من حيث المعنى ، ولموافقة أفعل المتعدي ، وموافقة المجرد للإغناء عن أفعل وعن المجرد . ومثل ذلك : ضارب زيدا عمر ، وباعدته ، وواريت الشيء ، وقاسيت . وخادع هنا إما لموافقة الفعل المجرد فيكون بمعنى خدع ، وكأنه قال : يخدعون الله ، ويبينه قراءة الزمخشري ابن مسعود وأبي حياة ، وقد تقدمت . ويحتمل أن يكون خادع من باب المفاعلة ، فمخادعتهم تقدم تفسيرها ، ومخادعة الله لهم حيث أجرى عليهم أحكام المسلمين واكتفى منهم [ ص: 57 ] في الدنيا بإظهار الإسلام ، وإن أبطنوا خلافه ، ومخادعة المؤمنين لهم كونهم امتثلوا أحكام المسلمين عليهم . وفي مخادعتهم هم للمؤمنين فوائد لهم ، من تعظيمهم عند المؤمنين ، والتطلع على أسرارهم فيغشونها إلى أعدائهم ، ورفع حكم الكفار عنهم من القتل وضرب الجزية ، وغير ذلك ، وما ينالون من الإحسان بالهداية وقسم الغنائم . وقرأ : وما يخادعون ، الحرميان وأبو عمرو . وقرأ باقي السبعة : وما يخدعون . وقرأ الجارود بن أبي سبرة وأبو طالوت عبد السلام بن شداد : وما يخدعون مبنيا للمفعول . وقرأ بعضهم : وما يخادعون ، بفتح الدال مبنيا للمفعول . وقرأ قتادة : وما يخدعون ، من خدع المشدد مبنيا للفاعل ، وبعضهم يفتح الياء والخاء وتشديد الدال المكسورة . فهذه ست قراءات ، توجيه الأولى : أن المعنى في الخداع إنما هو الوصول إلى المقصود من المخدوع ، بأن ينفعل له فيما يختار ، وينال منه ما يطلب على غرة من المخدوع وتمكن منه وتفعل له ، ووبال ذلك ليس راجعا للمخدوع ، إنما وباله راجع إلى المخادع ، فكأنه ما خادع ولا كاد إلا نفسه بإيرادها موارد الهلكة ، وهو لا يشعر بذلك جهلا منه بقبيح انتحاله وسوء مآله . وعبر عن هذا المعنى بالمخادعة على وجه المقابلة ، وتسمية الفعل الثاني باسم الفعل الأول المسبب له ، كما قال : ومورق العجلي
ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
جعل انتصاره جهلا ، ويؤيد هذا المنزع هنا أنه قد يجيء من واحد : كعاقبت اللص ، وطارقت النعل . ويحتمل أن تكون المخادعة على بابها من اثنين ، فهم خادعون أنفسهم حيث منوها الأباطيل ، وأنفسهم خادعتهم حيث منتهم أيضا ذلك ، فكأنها مجاورة بين اثنين ، وقال الشاعر :
تذكر من أنى ومن أين شربه يوءامر نفسيه لذي البهجة الأبل
وأنشد : ابن الأعرابي
لم تدر ما ولست قائلها عمرك ما عشت آخر الأبد
ولم توءامر نفسيك ممتريا فيها وفي أختها ولم تلد
وقال :
يؤامر نفسيه وفي العيش فسحة أيستوبع الذوبان أم لا يطورها
وأنشد ثعلب عن : ابن الأعرابي
وكنت كذات الضي لم تدر إذ بغت تؤامر نفسيها أتسرق أم تزني
ففي هذه الأبيات قد جعل للشخص نفسين على معنى الخاطرين ، ولها جنسين ، أو يكون فاعل بمعنى فعل ، فيكون موافقا لقراءة : وما يخدعون . وتقول العرب : خادعت الرجل ، أعملت التحيل عليه فخدعته ، أي تمت عليه الحيلة ونفذ فيه المراد ، خدعا ، بكسر الخاء في المصدر وخديعة ، حكاه أبو زيد . فالمعنى : وما ينفذ السوء إلا على أنفسهم ، والمراد بالأنفس هنا ذواتهم . فالفاعل هو المفعول ، وقد ادعى بعضهم أن هذا من المقلوب وأن المعنى : وما يخادعهم إلا أنفسهم ، قال : لأن الإنسان لا يخدع نفسه ، بل نفسه هي التي تخدعه وتسول له وتأمره بالسوء . وأورد أشياء مما قلبته العرب ، وللنحويين في القلب مذهبان : أحدهما : أنه يجوز في الكلام والشعر اتساعا واتكالا على فهم المعنى . والثاني : أنه لا يجوز في الكلام ويجوز في الشعر حالة الاضطرار ، وهذا هو الذي صححه أصحابنا ، وكان هذا الذي ادعى القلب لما رأى قولهم : منتك نفسك ، وقوله تعالى : ( بل سولت لكم أنفسكم ) تخيل أن الممني والمسول غير الممنى والمسول له ، وليس على ما تخيل ، بل الفاعل هنا هو المفعول . ألا ترى أنك تقول : أحب زيد نفسه ، وعظم زيد نفسه ؟ فلا يتخيل هنا تباين الفاعل والمفعول إلا من حيث اللفظ ، وأما المدلول فهو واحد . وإذا كان المعنى صحيحا دون قلب ، [ ص: 58 ] فأي حاجة تدعو إليه هذا ؟ مع أن الصحيح أنه لا يجوز إلا في الشعر ، فينبغي أن ينزه كتاب الله - تعالى - منه . ومن قرأ : وما يخادعون أو يخدعون مبنيا للمفعول ، فانتصاب ما بعد إلا على ما انتصب عليه زيد غبن رأيه ، إما على التمييز على مذهب الكوفيين ، وإما على التشبيه بالمفعول به على ما زعم بعضهم ، وإما على إسقاط حرف الجر ، أي في أنفسهم ، أو عن أنفسهم ، أو ضمن الفعل معنى ينتقضون ويستلبون ، فينتصب على أنه مفعول به ، كما ضمن الرفث معنى الإفضاء فعدي بإلى في قوله : ( الرفث إلى نسائكم ) ، ولا يقال رفث إلى كذا ، وكما ضمن ( هل لك إلى أن تزكى ) ، معنى أجذبك ، ولا يقال : ألا هل لك في كذا . وفي قراءة : وما يخدعون ، فالتشديد إما للتكثير بالنسبة للفاعلين أو للمبالغة في نفس الفعل ، إذ هو مصير إلى عذاب الله وإما لموافقة فعل نحو : قدر الله وقدر ، وقد تقدم ذكر معاني فعل . وقراءة من قرأ : وما يخدعون ، أصلها يختدعون فأدغم ، ويكون افتعل فيه موافقا لفعل نحو : اقتدر على زيد ، وقدر عليه ، وهو أحد المعاني التي جاءت لها افتعل ، وهي اثنا عشر معنى ، وقد تقدم ذكرها .
( وما يشعرون ) جملة معطوفة على : ( وما يخدعون إلا أنفسهم ) ، فلا موضع لها من الإعراب ، ومفعول يشعرون محذوف تقديره إطلاع الله نبيه على خداعهم وكذبهم ، روي ذلك عن ، أو تقديره هلاك أنفسهم وإيقاعها في الشقاء الأبدي بكفرهم ونفاقهم ، روي ذلك عن زيد . ويحتمل أن يكون وما يشعرون : جملة حالية تقديره وما يخادعون إلا أنفسهم غير شاعرين بذلك ; لأنهم لو شعروا أن خداعهم لله وللمؤمنين إنما هو خداع لأنفسهم لما خادعوا الله والمؤمنين . وجاء : يخادعون الله بلفظ المضارع لا بلفظ الماضي لأن المضي يشعر بالانقطاع بخلاف المضارع ، فإنه يشعر في معرض الذم أو المدح بالديمومة ، نحو : زيد يدع اليتيم ، وعمرو يقري الضيف . والقراء على فتح راء مرض في الموضعين إلا ابن عباس ، عن الأصمعي أبي عمرو ، فإنه قرأ بالسكون فيهما ، وهما لغتان كالحلب والحلب ، والقياس الفتح ، ولهذا قرأ به الجمهور ، ويحتمل أن يراد بالمرض الحقيقة ، وأن المرض الذي هو الفساد أو الظلمة أو الضعف أو الألم كائن في قلوبهم حقيقة ، وسبب إيجاده في قلوبهم هو ظهور الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه ، وفشو الإسلام ونصر أهله . ويحتمل أن يراد به المجاز ، فيكون قد كنى به عما حل القلب من الشك ، قاله ، أو عن الحسد والغل ، كما كان ابن عباس عبد الله بن أبي ابن سلول ، أو عن الضعف والخور لما رأوا من نصر دين الله وإظهاره على سائر الأديان ، وحمله على المجاز أولى لأن قلوبهم لو كان فيها مرض لكانت أجسامهم مريضة بمرضها ، أو كان الحمام عاجلهم ، قال : بعض المفسرين يشهد لهذا الحديث النبوي والقانون الطبي ، أما الحديث فقوله - صلى الله عليه وسلم - : " " . وأما القانون الطبي ، فإن الحكماء وصفوا القلب على ما اقتضاه علم التشريح ، ثم قالوا : إذا حصلت فيه مادة غليظة ، فإن تملكت منه ومن غلافه أو من أحدهما فلا يبقى مع ذلك حياة وعاجلت المنية صاحبه ، وربما تأخرت تأخيرا يسيرا ، وإن لم تتمكن منه المادة المنصبة إليه ولا من غلافه ، أخرت الحياة مدة يسيرة ، وقالوا : لا سبيل إلى بقاء الحياة مع مرض القلب ، وعلى هذا الذي تقرر لا تكون قلوبهم مريضة حقيقة . وقد تلخص في القرآن من المعاني السببية التي تحصل في القلب سبعة وعشرون مرضا ، وهي : الرين ، والزيغ ، والطبع ، والصرف ، والضيق ، والحرج ، والختم ، والإقفال ، والإشراب ، والرعب ، والقساوة ، والإصرار ، وعدم التطهير ، والنفور ، والاشمئزاز ، والإنكار ، والشكوك ، والعمى ، والإبعاد بصيغة اللعن ، والتأبي ، والحمية ، والبغضاء ، والغفلة ، والغمزة ، واللهو ، والارتياب ، والنفاق . وظاهر آيات القرآن تدل على أن هذه الأمراض معان تحصل في القلب فتغلب عليه ، وللقلب أمراض غير هذه من الغل والحقد [ ص: 59 ] والحسد ، ذكرها الله - تعالى - مضافة إلى جملة الكفار . والزيادة تجاوز المقدار المعلوم ، وعلم الله محيط بما أضمروه ومن سوء الاعتقاد والبغض والمخادعة ، فهو معلوم عنده ، كما قال تعالى : ( إن في جسد ابن آدم لمضغة إذا صلحت صلح الجسد جميعه ، وإذا فسدت فسد الجسد جميعه ، ألا وهي القلب وكل شيء عنده بمقدار ) ، وفي كل وقت يقذف في قلوبهم من ذلك القدر المعلوم شيئا معلوم المقدار عنده ، ثم يقذف بعد ذلك شيئا آخر ، فيصير الثاني زيادة على الأول ، إذا لو لم يكن الأول معلوم المقدار لما تحققت الزيادة ، وعلى هذا المعنى يحمل : ( فزادتهم رجسا إلى رجسهم ) . وزيادة المرض إما من حيث أن ظلمات كفرهم تحل في قلوبهم شيئا فشيئا ، وإلى هذا أشار بقوله تعالى : ( ظلمات بعضها فوق بعض ) ، أو من حيث أن المرض حصل في قلوبهم بطريق الحسد أو الهم ، بما يجدد الله - سبحانه - لدينه من علو الكلمة ولرسوله وللمؤمنين من النصر ونفاذ الأمر ، أو لما يحصل في قلوبهم من الرعب ، وإسناد الزيادة إلى الله - تعالى - إسناد حقيقي بخلاف الإسناد في قوله تعالى : ( فزادتهم رجسا إلى رجسهم ) ، ( أيكم زادته هذه إيمانا ) . وقالت المعتزلة : لا يجوز أن تكون زيادة المرض من جنس المزيد عليه ، إذ المزيد عليه هو الكفر ، فتأولوا ذلك على أن يحمل المرض على الغم لأنهم كانوا يغتمون بعلو أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو على منع زيادة الألطاف ، أو على ألم القلب ، أو على فتور النية في المحاربة لأنهم كانت أولا قلوبهم قوية على ذلك ، أو على أن كفرهم كان يزداد بسبب ازدياد التكليف من الله - تعالى - . وهذه التأويلات كلها إنما تكون إذا كان قوله : ( فزادهم الله مرضا ) خبرا ، وأما إذا كان دعاء فلا ، بل يحتمل أن يكون الدعاء حقيقة فيكون دعاء بوقوع زيادة المرض ، أو مجازا فلا تقصد به الإجابة لكون المدعو به واقعا ، بل المراد به السب واللعن والنقص ، كقوله تعالى : ( قاتلهم الله أنى يؤفكون ) ، ( ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون ) ، وكقوله : لعن الله إبليس وأخزاه ، ومعلوم أن ذلك قد وقع ، وأنه قد باء بخزي ولعن لا مزيد عليه لأنه لا انتهاء له ، وتنكير مرض من قوله : ( في قلوبهم مرض ) لا يدل على أن جميع أجناس المرض في قلوبهم ، كما زعم بعض المفسرين ; لأن دلالة النكرة على ما وضعت له إنما هي دلالة على طريقة البدل ; لأنها دلالة تنتظم كل فرد فرد على جهة العموم ، ولم يحتج إلى جمع مرض لأن تعداد المحال يدل على تعداد الحال عقلا ، فاكتفى بالمفرد عن الجمع ، وتعدية الزيادة إليهم لا إلى القلوب ، إذ قال تعالى : ( فزادهم ) ، ولم يقل : فزادها ، يحتمل وجهين ، أحدهما : أن يكون على حذف مضاف ، أي فزاد الله قلوبهم مرضا ، والثاني : أنه زاد ذواتهم مرضا لأن مرض القلب مرض لسائر الجسد ، فصح نسبة الزيادة إلى الذوات ، ويكون ذلك تنبيها على أن في ذواتهم مرضا ، وإنما أضاف ذلك إلى قلوبهم لأنها محل الإدراك والعقل . وأمال حمزة فزادهم في عشرة أفعال ألفها منقلبة عن ياء إلا فعلا واحدا ألفه منقلبة عن واو ووزنه فعل بفتح العين ، إلا ذلك الفعل فإن وزنه فعل بكسر العين ، وقد جمعتها في بيتين في قصيدتي المسماة بعقد اللآلي في القراءات السبع العوالي ، وهما :
وعشرة أفعال تمال لحمزة فجاء وشاء ضاق ران وكملا
بزاد وخاب طاب خاف معا وحاق زاغ سوى الأحزاب مع صادها فلا
يعني أنه قد استثنى حمزة ( وإذ زاغت الأبصار ) في سورة الأحزاب ، ( أم زاغت عنهم الأبصار ) في سورة ص ، فلم يملها . ووافق ابن ذكوان حمزة على إمالة جاء وشاء في جميع القرآن ، وعلى زاد في أول البقرة ، وعنه خلاف في زاد هذه في سائر القرآن ، وبالوجهين قرأته له ، والإمالة لتميم ، والتفخيم للحجاز .
وأليم : تقدم تفسيره . فإذا قلنا إنه للمبالغة فيكون محولا من فعل لها ونسبته إلى العذاب مجاز ; لأن العذاب لا يألم ، إنما يألم صاحبه ، فصار نظير قولهم : شعر شاعر ، والشعر لا يشعر إنما الشاعر ناظمه . وإذا قلنا إنه بمعنى مؤلم ، كما قال عمرو بن معدي كرب :
أمن ريحانة الداعي السميع
أي المسمع ، وفعيل بمعنى مفعل مجاز ; لأن [ ص: 60 ] قياس أفعل مفعل ، فالأول مجاز في التركيب ، وهذا مجاز في الإفراد . وقد حصل للمنافقين مجموع العذابين : العذاب العظيم المذكور في الآية ، قيل : لانخراطهم معهم ولانتظامهم فيهم ، ألا ترى أن الله - تعالى - في تلك الآية قد أخبر أنهم لا يؤمنون في قوله : لا يؤمنون ، وأخبر بذلك في هذه الآية بقوله : وما هم بمؤمنين ؟ والعذاب الأليم ، فصار المنافقون أشد عذابا من غيرهم من الكفار بالنص على حصول العذابين المذكورين لهم ، ولذلك قال تعالى : ( إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ) ، ثم ذكر تعالى أن كينونة العذاب الأليم لهؤلاء سببها كذبهم وتكذيبهم ، وما مصدرية أي بكونهم يكذبون ، ولا ضمير يعود عليها لأنها حرف ، خلافا لأبي الحسن . ومن زعم أن كان الناقصة لا مصدر لها ، فمذهبه مردود ، وهو مذهب أبي علي الفارسي . وقد كثر في كتاب المجيء بمصدر كان الناقصة ، والأصح أنه لا يلفظ به معها ، فلا يقال : كان زيد قائما كونا ، ومن أجاز أن تكون ما موصولة بمعنى الذي ، فالعائد عنده محذوف تقديره يكذبونه أو يكذبونه . وزعم سيبويه أبو البقاء أن كون ما موصولة أظهر ، قال : لأن الهاء المقدرة عائدة إلى الذي دون المصدر ، ولا يلزم أن يكون ثم هاء مقدرة ، بل من قرأ : يكذبون ، بالتخفيف ، وهم الكوفيون ، فالفعل غير متعد ، ومن قرأ بالتشديد ، وهم الحرميان والعربيان ، فالمفعول محذوف لفهم المعنى تقديره فكونهم يكذبون الله في أخباره والرسول فيما جاء به ، ويحتمل أن يكون المشدد في معنى المخفف على جهة المبالغة ، كما قالوا في : صدق صدق ، وفي : بان الشيء بين ، وفي : قلص الثوب قلص . والكذب له محامل في لسان العرب ، أحدها : الإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه ، وعمرو بن بحر يزيد في ذلك أن يكون المخبر عالما بالمخالفة ، وهي مسألة تكلموا عليها في أصول الفقه . الثاني : الإخبار بالذي يشبه الكذب ولا يقصد به إلا الحق ، قالوا : ومنه ما ورد في الحديث عن إبراهيم - صلوات الله عليه وعلى نبينا - . الثالث : الخطأ ، كقول عبادة فيمن زعم أن الوتر واجب ، كذب أبو محمد أي أخطأ . الرابع : البطول ، كقولهم : كذب الرجل ، أي بطل عليه أمله وما رجا وقدر . الخامس : الإغراء بلزوم المخاطب الشيء المذكور ، كقولهم : كذب عليك العسل ، أي أكل العسل ، والمغرى به مرفوع بكذب وقالوا : لا يجوز نصبه إلا في حرف شاذ ، ورواه عن القاسم بن سلام ، والمؤثم هو الأول . وقد اختلف الناس في الكذب فقال قوم : الكذب كله قبيح لا خير فيه ، وقالوا : سئل معمر بن المثنى مالك عن فقال : لا خير فيه . وقال قوم : الرجل يكذب لزوجته ولابنه تطييبا للقلب ، فالمحرم الإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه إذا لم يكن في مراعاته مصلحة شرعية ، والمباح ما كان فيه ذلك ، كالكذب لإصلاح ذات البين . الكذب محرم ومباح
وذكر المفسرون في خلافا ، قال قوم : نزلت في منافقي أهل الكتاب ، سبب نزول هذه الآيات كعبد الله بن أبي ابن سلول ومعتب بن قشير والجد بن قيس ، حين قالوا : تعالوا إلى خلة نسلم بها من محمد وأصحابه ونتمسك مع ذلك بديننا ، فأظهروا الإيمان باللسان واعتقدوا خلافه . ورواه أبو صالح عن ، وقال قوم : نزلت في منافقي أهل الكتاب وغيرهم ، رواه ابن عباس عن السدي ابن مسعود ، وبه قال وابن عباس أبو العالية وقتادة وابن زيد .